بقلم: د. محمود خليل
الحالة السلفية هى حالة يتماهى فيها جيل معين من المسلمين بالجيل الذى سبقه، فجيل المسلمين الذين عاشوا فى العصر الأموى هم أول جيل تماهى بالجيل السابق له من الخلفاء الراشدين، وتماهى المسلمون فى العصر العباسى بالراشدين ونماذج من خلفاء بنى أمية مثل معاوية الثانى وعمر بن عبدالعزيز، أما جيل المسلمين فى العصرين العثمانى والمملوكى فقد تماهى بجمهرة من الأجيال السابقة له، ثم جاء جيل المسلمين فى تاريخنا الحديث والمعاصر فتماهوا بكل الأجيال.
والتماهى حالة نفسية تعكس غرام فرد أو جماعة بنماذج بشرية معينة والولع بتقليدها وحذو حذوها والنظر إليها كنماذج مثالية، مع محاولة استدعاء تجاربها فى الواقع. والتماهى بمدلوله السلفى تسيطر عليه ثنائية «العدل والقوة». فالعدل والقوة أكبر قيمتين يتحلق حولهما الفكر السلفى وهو يستدعى تجارب السابقين. وتكاد هذه الثنائية أن تكون شركاً بين الأجيال المتعاقبة من المسلمين.
وتفسير ذلك يجد أساسه فى مسألتين؛ أولاهما مسألة الاستبداد الذى مثّل سمة أساسية من سمات الحكم الإسلامى فى مراحل مختلفة من تاريخه، جعلت الخاضعين له شديدى التعطش إلى العدل، وعالجوا ذلك فى واقعهم باستدعاء النماذج التى مثلت صوراً مثالية للعدل توارثوها شعبياً، وثانيتهما مسألة الضعف الذى عانت منه الشعوب الإسلامية أمام الآخر الذى تسلل إلى السيطرة عليها خلال فترات تاريخية متنوعة، ذاقت فيها مرارة الهزيمة، واحتلال أرضها، ونهب ثرواتها، وحتى بعد الخروج من دائرة الاستعمار إلى دائرة التحرر لم تزل الشعوب الإسلامية تشعر بمرارة الهزيمة وهى تجد نفسها عالة على العالم. ولا تجد هذه الشعوب علاجاً لعلتها فى فترات الهزيمة أسهل من استدعاء تجربة الدولة الإسلامية القوية التى تمكنت من السيطرة على ما حولها من دول، وقدمت نماذج مبهرة فى التطور العلمى والثراء الاقتصادى.
ما أسهل أن يداعب الحلم بالمدينة الفاضلة خيال المظلوم الضعيف المغلوب على أمره، خصوصاً إذا كان لا يملك وعياً كافياً يسوقه إلى التفتيش عن أسباب ظلمه وضعفه ووضع يده عليها والاجتهاد فى علاجها والتخلص منها. الحل الأصعب هنا هو الاجتهاد فى تطوير الواقع والأخذ بأسباب العلم والمنافسة داخل العصر، والسعى نحو شق طريق إلى مستقبل أكثر عدلاً وتنوراً وقوة. الأسهل للشعوب فى هذه الحالة التعلق بصور الماضى، خصوصاً إذا كانت هذه الصور مرسومة بشكل مثالى، وتقدم تفسيراً يسيراً لحالة الظلم والضعف السائدة يتحدد ببساطة فى «التخلى عن الدين»، وليس أمام المسلم لكى يعود إلى مجتمع «العدل والقوة» سوى أن يبالغ فى الصلاة والصوم والزكاة والعمرة والحج، وأن يطيل لحيته ويحك أسنانه بالسواك ويستن بسنن النبى، صلى الله عليه وسلم. فليس ثم من طريق للنهضة سوى هذا الطريق، فهو وحده الكفيل بالعودة إلى عصر «العدل العمرى» أو «القوة الرشيدية» أو «الانتصارات الأيوبية» إلا بالعودة إلى ما كان عليه السلف الصالح من هذه الأمة!. ينظر السلفيون إلى منحنى التاريخ كمنحنى هابط يسير باستمرار نحو الأسفل، وأن اعتداله على مسار الاستقامة على أعلى نقطة فى المنحنى أساسها «الاستقامة على الدين». والاستدلالات فى هذا السياق حاضرة، منها «لن يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها»، و«خير القرون قرنى ثم الذى يليه ثم الذى يليه»، وغير ذلك من استدلالات تأخذ بظاهر الأحاديث النبوية دون تأمل لمعناها ومغزاها وسياقاتها، ناهيك عن إهمالها الواضح للعديد من المعانى التى تحملها بعض الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى: «كُلّاً نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً»، وقوله تعالى: «مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ».