بقلم: د. محمود خليل
دائماً ما يخرج أبى من بين سطور الحكاية. فى كل موقف يشخص ذلك الرجل المهيب فى شبابه العفى أو فى شيخوخته المهيبة، وتطل صورته ليقول لك افعل أو لا تفعل. الصغير الذى يخطو خطواته الأولى فى الحياة ويتلمس بحواسه العالم الذى دلف تواً إليه يرى أباه فى صورة «عملاق» يبدو أمامه الابن قزماً يتوق إلى حمايته وعطفه بنفس الدرجة التى يرتعد فيها خوفاً من غضبه وسطوته. تخطر السنون بالإنسان فتستوى ملامح المراهقة على عود الفتى أو الفتاة، ثم يتبختر فى سنوات الشباب، وتنتأ عليه نفسه ويبدأ فى الشعور بذاته، وقد يدفعه غرور العافية إلى تحدى العملاق الذى كانت ترتعد فرائصه منه بالأمس، قد يقهر الأب حركة التمرد تلك، وقد يحتويها، مقدراً أنه مر بهذه اللوثة فى حقبة معينة. ولا يستفيق الابن من لوثته إلا بعدما يصبح أباً. حينها ينظر إلى هذا الشيخ الجليل الذى أكلت الحياة صحته، واشتعل رأسه بالشيب، ونخرت عظامه، وكأنه أقوى البشر. فضعف المشيب قوة.. وقوة الشباب غرور. لحظتها يعلم الابن أن قهر الأب حنان، وغضبته عطف، وسطوته حماية، ونصائحه حكمة.
يظن الكثيرون أن الأبناء يذكرون أمهاتهم أكثر مما يذكرون آباءهم. وهو ظن أجده فى غير محله. فالأب حاضر حين يكون موجوداً، وحاضر أيضاً حين يغيب. لا أنسى عبارة نحتها المبدع فتحى غانم فى رواية «زينب والعرش»، يقول فيها عبدالهادى النجار: «نحن نسير وآباؤنا فوق أكتافنا». نحن فعلاً كذلك. فالبنت التى أصبحت زوجة تسترجع الأب وهى تراقب حركات وسكنات زوجها. والابن الذى أصبح زوجاً يراجع أداءه اليومى على مرآة أبيه. كل يوم يوضع رجل أمام مرآة أب، أو يقف ابن أمام مرآة أبيه. أذكر أننى فعلت ذلك كثيراً، بل قل فى كل لحظة أفعله.
ما أكثر ما أردد ما بينى وبين نفسى عبارة «كان أبى يفعل». وما أسرع ما أقف أمام مرآته وأقيس ما أفعله إلى ما كان يفعل. كان أبى، رحمه الله، قوياً حين يريد، وصبوراً حين يتعب، وعطوفاً حين يرق، وصدوقاً ولو كذب كل الناس من حوله، وقنوعاً ولو بشق تمرة. لم تُهزم رجولته أمام حاجة يبتغيها، أو منفعة يطمع فيها. عاش الحياة يزين رأسه «تاج الرضا». وما أكثر ما كان يردد «الرضا بالمقسوم عبادة». أذكر أننى لم أبك عليه لحظة وفاته، لكننى بكيت كثيراً فى لحظة شعرت فيها بعجزه كإنسان لم أره ضعيفاً أبداً، وبكيت أكثر فى لحظة عجزت فيها عن حمل نعشه فوق أكتافى.
أبى وأنت الآن فى عالم أفضل.. ابنك أصبح كهلاً يخطو إلى الستين من عمره، لكنه لم يزل بحاجة إلى يدك التى تحنو، ونصيحتك التى تغنى، ودعوتك التى تفتح الأبواب الموصدة، لم يزل بحاجة إلى الإحساس بالأمان الذى كنت تظلله به. اعلم يا أبى وأنت بين يدى رحمن رحيم أننى أذكرك فى كل لحظة، وأود من كنت تود، وأحب من كنت تحب، وأترحم على نفسك الزكية وروحك الطاهرة فى كل لحظة.. فلترقد فى سلام.. ولتهنأ برحمة ربك وعفوه ومغفرته فى عالم الحقيقة.