بقلم: د. محمود خليل
بدت نخبة ما قبل ثورة يوليو مهزومة بائسة وهى تهرول إلى مقر القيادة العامة لتقديم التهانى والأمانى إلى الحكام الجدد الذين سيطروا على المشهد بعد 1952. يسجل عبدالرحمن الرافعى فى كتابه عن «ثورة 23 يوليو» أن زعماء أحزاب ما قبل الثورة سارعوا إلى الذهاب إلى مقر قيادة الثورة بثكنات مصطفى باشا بالإسكندرية وقابلوا القائد العام، اللواء محمد نجيب؛ ليعبروا عن تمنياتهم للحركة بالنجاح، وكان من بينهم أحمد لطفى السيد وإبراهيم عبدالهادى ومحمد حسين هيكل وبهى الدين بركات، وذهب مكرم عبيد للتهنئة نيابة عن الكتلة الوفدية. أما مصطفى باشا النحاس فقد كان يصطاف فى أوروبا، وعندما علم بما يحدث فى مصر عاد لتوه يوم 28 يوليو، وقابل القائد العام وقال له: إثر وصولى إلى أرض الوطن رأيت أن أول واجب علىّ أن أزور محرر الوطن وأن أرى من أنقذ شرف الوطن. ويسجل «الرافعى» أنه ذهب للتهنئة نيابة عن الحزب الوطنى.
هذه الهرولة من الرموز الكبرى لعصر ما قبل الثورة حملت رسالة فهمها الشعب جيداً، لكن النخبة المخدرة بما حدث لم تقف عندها، الرسالة تقول إن الزمن تجاوز هذه النخبة القديمة، وإن نخبة جديدة تتشكل فى أروقة السلطة سوف تحل محلها. لم تلتفت النخبة التى تمثلها الأسماء السابقة إلى أن شعبيتها كانت آخذة فى التآكل طيلة فترة الأربعينات، وأن قوى سياسية جديدة تشكلت خلال هذه المرحلة ملأت الفراغ الشعبى الذى خلفته، مثل جماعة الإخوان ومصر الفتاة وحدتو، وأن صلة الحكام الجدد بهذه القوى أكثر عمقاً، وأنه لو صح أن ثمة سمات سياسية تجمع ما بين أعضاء مجلس قيادة الثورة فكلها مستمدة من فكر ورؤية ونهج الممارسة السياسية لهذه الجماعات الراديكالية.
لم تدرك نخبة النحاس باشا أن الزمن تجاوزها، وأن العبور على المشهد برمته بعيداً عن التكتيكات السياسية التى ورثوها عن تجاربهم السابقة هو ما يليق بهم، لكنهم عمدوا إلى تسليم أنفسهم للسلطة الجديدة، ظناً منهم أن بإمكانهم الضحك عليها. انظر إلى ما قاله جمال عبدالناصر فى خطاب ألقاه بشبرا الخيمة يوم 20 ديسمبر 1952 وهو يصف هذه النخبة: «كان الواحد منهم يجىء ويجلس معنا، ثم يخرج فيقول: أنا حطيتهم فى جيبى، دول شوية عيال». استغل عبدالناصر الأداء البائس للنخبة القديمة فعمد إلى تعريتها أمام الشعب. جردها فى البداية من ألقابها، حين قرر مجلس الوزراء -برئاسة على ماهر- فى 2 أغسطس عام 1952 إلغاء الرتب والألقاب المدنية، فلم يعد هناك بك أو باشا، ومنع رؤساء مجالس الوزراء العاملين والسابقين من الوصف بلقب رئيس، ثم صدرت بعد ذلك مجموعة القوانين التى جردتها من أدواتها المادية، وأبرزها قانون «الإصلاح الزراعى».
والواضح أن «انكشاف النخبة» كان له تأثير نفسى خطير على الشعب، جعله مهيأ كل التهيئة لأمرين: الأول أن عليه أن يسلم للمسيطرين الجدد تسليماً كاملاً، لأنه بحال لن يكون أقوى من هؤلاء الكبار الذين تساقطوا على مكتب القائد العام لتقبيل الأعتاب وتقديم التهانى والأمانى، الثانى أن الشعب أصبح مهيأ لقبول رؤية وتصور المسيطرين الجدد عن أحداث وأوضاع وأسماء ورموز العهد البائد، رغم مجانبتها الموضوعية وحقائق التاريخ فى كثير من الأحوال، وسلم بفكرة أن تاريخ مصر بدأ فجر 23 يوليو. وقبل أن يفيق الشعب من دهشته أمام مشهد النخبة المهرولة، بادر الحكام الجدد إلى اتخاذ العديد من القرارات والقوانين التى أدارت رأسه، حين صبت فى مصالحه اليومية والحياتية بشكل غير مسبوق، تحول معه التسليم المؤسس على «تسليم النخبة» إلى قناعة كاملة بنخبة الحكم الجديد.