بقلم: د. محمود خليل
لست بحاجة إلى التذكير بالقرارات الرعناء التى تم اتخاذُها قبل حرب 1967 وخلالها، بدءاً من دعوة قوات الطوارئ الدولية إلى الانسحاب وإغلاق مضيق العقبة، ومروراً بقرار تحشيد للجنود على الجبهة، وانتهاءً بمأساة قرار الانسحاب من سيناء. أغلب هذه القرارات لم تكن مدروسة بالقدر الكافى، وكانت ثمة خلافات وصراع واضح بين كل من عبدالناصر وعبدالحكيم عامر. وحول كل من القيادتين العسكرية والسياسية تحلقت شلل المستفيدين، التى كانت تصفق لقرارات كبيرها وتمتدح حكمته، رغم خلوها من العقلانية والرشادة، وكانت تجيد بعد ذلك تسويقها لدى المصريين، رغم ما تحمله من أوهام بعيدة أشد البعد عن الواقع.
«عبدالناصر» كان يعلم أن قرار إغلاق مضيق العقبة يعنى اندلاع الحرب، ومؤكد أنه لم يكن مطمئناً إلى قدرة المشير عبدالحكيم عامر على إدارة المعركة المتوقعة، وهو الذى رأى مستوى أدائه فى حرب 1956، ثم حرب اليمن 1962، ورغم ذلك لم يتردّد فى اتخاذ قرارات كان يعلم أن نهايتها الحرب. هذه المسألة تستحق منا قدراً من التأمل. كان القرار حينذاك فى يد الرئيس عبدالناصر، ولم يكن لمؤسسات الدولة دور ذو بال فى مشاركة الرئيس فى القرار، ناهيك عن أن يكون للشعب الملتف حول الزعيم دور. نكسة 1967 أظهرت المآلات التى يمكن أن تنتهى إليها مسألة استفراد شخص واحد، أو شلة، أو مجموعة، بالقرار من دون مؤسسات الدولة، ومن دون الشعب، كما أظهرت النتائج التى يمكن أن تترتب على غياب الرأى الآخر عن المشهد السياسى. فقد اختفت المعارضة بشكلها المؤسسى فى تلك الحقبة، وكذلك بشكلها الفردى بسبب مناخ الخوف الذى ساد. كان «عبدالناصر» قد تخلص قبل النكسة من الكثير من رفاق الثورة عام 1952، وبعض هذه الأصوات لم تتردّد طوال الخمسينات، فى الاعتراض على بعض قرارات «ناصر» وتوضيح جوانب من الصورة قد تكون غائبة عنه.
«عبدالناصر» كان يعلم أنه اتخذ القرار وحده، وكانت لديه الشجاعة الأدبية ليُعلن أمام المصريين تحمّله المسئولية كاملة فى خطابه الشهير فى 9 يونيو، حين دهم المصريين بأسوأ خبر سمعوه فى تاريخهم المعاصر، خبر الهزيمة واحتلال سيناء. المصريون كانوا يعلمون بحقيقة فردية الحكم فى عصر «عبدالناصر»، وارتضوا أن تتعلق آمالهم بشخص واحد، لذا فمشهد الجماهير التى احتشدت فى ميادين مصر وشوارعها فى 9 و10 يونيو 1967 كان طبيعياً. ولم يكن كما يظن البعض دليل خيبة، بل كان مؤشراً على الوعى بفردية الحكم. رأى الناس أن استمرار عبدالناصر ضرورة فى دولة لا تتحرك بفكر مؤسسى بل بإرادة فرد، أيقنوا ساعتها أن زوال هذا الفرد معناه السقوط فى دائرة ضياع كامل، لذا أصروا على استمراره. لم تكن المسألة -كما كان يردّد بعض أفراد النخبة حينذاك- فى أن الشعب واعٍ بأن العدوان الإسرائيلى المدعوم بالإمبريالية العالمية كان هدفه الإطاحة بـ«عبدالناصر»، وأن تمسّكه به يعنى الانتصار على العدو وإحباط أهدافه، بل تحرك الشعب بنوع من التسليم بأن تلك أقداره، وأنه يدفع ثمن خطأ «إعلاء الفرد على المؤسسة»، ولم يكن التوقيت حينذاك مناسباً لمعالجة هذا الخطأ.