بقلم: د. محمود خليل
انضم «جهيمان» إلى «الجماعة السلفية المحتسبة» التى ظهرت فى المملكة -برعاية الشيخ «عبدالعزيز بن باز»- وشنت هجوماً دعوياً وعملياً لما تراه بدعاً داخل الجامعات، وكذا داخل المجتمع، مما أدى إلى اصطدامها بالمواطنين فى مرحلة أولى وبالسلطة فى مرحلة تالية. وانتشرت خلايا «السلفية المحتسبة» فى المدينة المنورة، ومنها إلى بقاع المملكة الأخرى، وتمدّدت على مستويات عدة طوال فترة السبعينات. وبمرور الوقت انشق «جهيمان» عن «ابن باز» واستقل بأتباعه وبات زعيماً للجماعة التى بدت فى أول عهدها متأثرة بنظرية التربية العقائدية لناصر الدين الألبانى، لكن «جهيمان» تمكن من عطفها إلى منحى السياسة، رغم نص «الألبانى» على أن السياسة فى ذلك الزمان هى «ترك السياسة».
يقول ستيفان لاكروا فى كتابه «زمن الصحوة»: «يبدو أن جهيمان كان منذ صغره يحمل موقفاً قاطعاً من مسألة شرعية الدولة». وقد حدثتك فى ما سبق عن قبيلة عتيبة، والدور الذى قامت به فى تشكيلات «جيش الإخوان» وبلائها فى الحرب مع الملك عبدالعزيز، ثم التمرّد الذى قاده سلطان بن بجاد زعيم القبيلة ضد الملك عبدالعزيز، بسبب اتجاه الأخير إلى لعبة التفاهمات السياسية، وإصرار الأول على مبدأ «الجهاد الذى لا ينقطع». ويشير «لاكروا» إلى أن والد جهيمان شارك مع «سلطان» فى كل المواقع حين كان يحارب فى صف «عبدالعزيز»، وكذا فى الحرب ضد «عبدالعزيز». ويبدو أن حوارات معينة دارت بينه وبين أبيه أدت إلى تشبّعه بروح معادية للدولة السعودية وتكيّفه مع أفكار الإخوان الأوائل الذين رفعوا شعارات الجهاد المستمر.
فى ظل التوجه الذى تبناه «جهيمان»، بدأت السلطة السعودية فى مطاردته، لكنه تمكن من الهرب والإفلات بعد أن وصلته معلومة مبكرة بتحرّك يستهدف القبض عليه، فى الوقت الذى تم فيه القبض على عدد من أتباعه.
ساعد «جهيمان» فى الهروب أيضاً وجود ما يشبه الحضّانة الشعبية بين البدو بسبب مداعبته لذكرياتهم الأولى حول الإخوان وجيش الإخوان. أخذ «جهيمان» يروج لفكرة «المهدى» وبنى تحركه لاحتلال الحرم المكى -كما يذهب «لاكروا»- على منام رأى فيه أن رفيقه محمد القحطانى هو «المهدى»، وشاعت الفكرة بين أتباع «جهيمان»، ومن بين هؤلاء تشكلت المجموعة التى خطت الخطوة وبدأت الترتيب لاحتلال الحرم من خلال جمع السلاح المهرب من اليمن والتدريب عليه، واختار «جهيمان» اليوم الأول من المحرم الحرام عام 1400 -على رأس القرن الخامس عشر الهجرى- لتنفيذ خطته.
نجحت المجموعة المكونة من 200 - 300 عنصر فى احتلال الحرم، ونودى بـ«القحطانى» مهدياً منتظراً. وبعد عدة أيام من الاحتلال نجحت القوات المحاصرة للحرم فى قتل «القحطانى»، وحاول «جهيمان» التكتم على الخبر، خوفاً من أن يؤثر على معنويات أتباعه. تواصل احتلال الحرم لمدة أسبوعين، وشاع الهرج والمرج فى شتى أنحاء العالم الإسلامى، وتضاربت الفتاوى حول عملية الاقتحام التى قرّرتها القوات السعودية والأخرى الفرنسية التى تم الاستعانة بها ومدى شرعيتها من الوجهة الدينية، وانتهى الأمر باقتحام الكعبة المشرفة والسيطرة على الموقف، وتم القبض على «جهيمان» العتيبى ليُحكم عليه بالإعدام. وبعدها تعرّضت جماعة «السلفية المحتسبة» التى كان يقودها لعملية تفكيك كامل من جانب السلطة وطوردت عناصرها فى كل الاتجاهات، لتنتهى واحدة من أكثر القصص إثارة فى تاريخ البيت الحرام.