بقلم: د. محمود خليل
يتبرم لكنه لا يتحرك.. كذلك كان شأن الشعب عام 1954. فرغم رضائه عن القرارات الشعبوية التى اتخذها «عبدالناصر»، فإنه بدأ يتبرم من أسلوب إدارة الحكام الجدد للبلاد. تعلَّق موضوع التبرُّم بمسألة الجلاء عن مصر والسودان. ففى إطار الصراعات الداخلية على الحكم وجد الشعب رجال مجلس قيادة الثورة يتسامحون فيما لم يسبق لقوة سياسية التسامح فيه منذ بدء مفاوضات «الجلاء» عن مصر والسودان عقب ثورة 1919. فبالنسبة لمسألة السودان وافق مجلس القيادة على منح السودانيين حق تقرير المصير واختيار الحكم الذاتى إذا شاء السودانيون مع تكوين دولة اتحادية بين الدولتين، وهو ما لم يتحقق بسبب أسلوب إدارة صلاح سالم لهذا الملف، ناهيك عن حالة الغضب التى انتابت الشارع السودانى جراء استبعاد اللواء محمد نجيب من منصب رئاسة الجمهورية، ويسجل أحمد حمروش فى كتابه «مجتمع عبدالناصر» أن أغلب الساسة السودانيين اعتبروا ذلك نوعاً من عدم الوفاء وإنكار الفضل، خصوصاً أن «نجيب» كان ينظر إليه كنصف سودانى ونصف مصرى، بالإضافة إلى ما ولدته الخطوة من خوف لدى السودانيين من الحكام الجدد، وكانت النتيجة أن قرر السودانيون حكم أنفسهم بأنفسهم ورفضوا الاتحاد مع مصر.
حتى ذلك التاريخ لم تكن الذاكرة المصرية قد نسيت بعد العرض الذى قدمه الإنجليز لسعد زغلول بالجلاء عن مصر وتنصيبه ملكاً عليها نظير استقلال السودان عن مصر وانسحاب القوات المصرية منه، وهو ما رفضه «زغلول» رفضاً قاطعاً كما جاء فى مذكراته. أضف إلى ذلك ما تختزنه الذاكرة من تاريخ غضب مع حزب الوفد بقيادة «النحاس باشا» عندما قبِل بنوع من التحالف مع الإنجليز فى معاهدة 1936 وهو ما دفعه إلى إلغاء المعادة برمَّتها عام 1951، وبالتالى نستطيع أن نفهم إلى أى حد كانت النتيجة التى وصل إليها مجلس القيادة فى التفاوض مع السودان صادمة للوجدان المصرى. وتضاعف حجم الصدمة عندما علم المصريون أن اتفاقية الجلاء التى وقَّعتها مصر مع إنجلترا بالأحرف الأولى عام 1954 تتضمن بنداً ينص على حق القوات الإنجليزية فى العودة إلى قاعدة القنال فى حالة تعرُّض تركيا أو أى دولة أخرى ضمن حلف الأطلنطى لهجوم. واللافت أن أحمد حمروش يسجل أن محمد حسنين هيكل يسجل فى كتابه «عبدالناصر والعالم» أن «ناصر» قال لإيدن رئيس وزراء إنجلترا أثناء زيارته لمصر عام 1955، إنه تكبَّد الكثير بسبب هذه الاتفاقية إلى حد التعرض لإطلاق النار عليه. ويقصد بذلك حادث المنشية الشهير الذى تعرَّض فيه «عبدالناصر» لمحاولة اغتيال على يد أحد كوادر الإخوان بعد أسبوع واحد من توقيع اتفاقية الجلاء.
اهتزت جسور الثقة بين الشعب وجمال عبدالناصر وأخذ يتساءل عن الفارق بين الأسلوب الذى يدير به الحكام الجدد والساسة القدامى، لكن يبدو أن «عبدالناصر» كان واعياً بالنفسية المصرية بشكل كافٍ، فقبْل أن يصل تبرُّمها إلى تحرُّك ضده بادَر إلى اتخاذ العديد من الخطوات التى أدارت رؤوس المواطنين، بدءاً من مؤتمر باندونج الذى أعلن سياسة الحياد ورفض التحالفات، ثم صفقات السلاح التى أبرمها مع التشيك، ثم كانت الخطوة الأهم بتأميم القناة عام 1956 وما أعقبها من عدوان ثلاثى على مصر. يسجل أحمد حمروش أن «عبدالناصر» قال لأكرم حورانى ذات يوم: «لا تحدثنى عن الشعب.. إننى أعرف كيف تتحرك الجماهير». والتجربة تؤكد بالفعل أن «ناصر» كان يجيد إدهاش الشعب، ويستوعب أن الشعوب البسيطة المحبة للحياة تمتلك نفسية تميل إلى «الاندهاش».