بقلم: د. محمود خليل
أواخر عهد إسماعيل كان نجله الأكبر وولىّ عهده «محمد توفيق باشا» على اتصال بالعديد من الأصوات الإصلاحية، وعلى رأسها جمال الدين الأفغانى. وهو رجل امتلك قدرة خاصة على التسرب إلى العقل والوجدان الأدهمى فى لقاءاته التى كان يعقدها مع المصريين على المقاهى ويشاركهم فيها الرأى والدخان. وكما كان متوقعاً، فقد نسى «توفيق» حماسه للإصلاح الدستورى والمعيشى بمجرد اعتلائه السدة الخديوية، حين استيقظ بداخله «الأدهم» الكامن، والذى ترسّخ عير تجربته المريرة داخل القصر الخديوى. فمثلما كان «أدهم»، بطل الحكاية الأولى فى «أولاد حارتنا»، ابناً لإحدى جوارى البيت الكبير، كان «توفيق» ابناً لإحدى الخادمات بالقصر الخديوى، وكان موضع احتقار أبيه، وتربى فى حجر خادمات القصر، فنما ضعيف الشخصية ولوعاً بالنفاق والمراوغة وإخفاء الحقيقة والإلقاء بأسباب فشله على الآخرين.
عندما رأى الخديو توفيق رأس أبيه الطائر بقرار عزل صادر من إسطنبول، اجتث من رأسه فكرة الاستعانة بالرعية الأدهمية، وتنكّر لعلاقته بالإصلاحيين المصريين، ومن بينهم الأفغانى ومحمد عبده وغيرهما، وجعل همّه فى الحياة الحفاظ على عرشه بأى ثمن. استعان «توفيق» برياض باشا، بما كان معروفاً عنه من قسوة واستبداد فى التعامل مع الرعية، كان يبررها دائماً بأن البلاد تواجه أزمة مالية طاحنة تهدد باحتلالها، وأنه لا يملك الوقت للالتفات إلى ثرثرة «الأداهم» المنادين بالإصلاح. لم يُفلح «رياض» فى النهاية فى حل المشكلة، وبدأ الخديو فى اللعب ضده بعد أن شعر أن نفوذه فى البلاد يتمدد. ومع استفحال الأزمة الاقتصادية وتأخر الحكومة فى صرف الرواتب تحرك «عرابى» ورفاقه من أجل تصحيح أوضاعهم فى البداية، ثم من أجل إصلاح أوضاع البلاد فى خطوة لاحقة.
تلبّست «عرابى» روح أدهمية حين نظر فأبصر الجراكسة يتمتعون بالعديد من المميزات خلافاً للفلاحين المصريين ممن انضموا إلى الجيش الذى أسسه الوالى محمد على، ولم تكن غطرسة «الجركسى» اللاهج باللغة التركية مؤسسة على كفاءة بل على غرور عرقى. نظر «عرابى» إلى «الجركسى» النظرة نفسها التى نظرها «أدهم» إلى «إدريس» فى البيت الكبير، فقد كان الأخير مزهواً بنفسه، كونه ابن الهانم «المتصيتة» التى تزوجها الجبلاوى الكبير، فى حين أن «أدهم» ابن جارية، ولم يكن «إدريس» يجد فى طاعة «أدهم» وإخلاصه للوالد سوى مداهنة وخضوع يليقان بالشخصية الضعيفة التى تريد البقاء ليس أكثر. رأى عرابى أنه أولى من الأبالسة الجراكسة بكافة الامتيازات التى تمكّنه من استعادة الحياة فى ظل «الحديقة والناى»، وكانت كل الظروف تؤهله لقيادة «الأداهم» من الفلاحين المصريين للتغيير.
كان «عرابى» شخصية «أدهمية» بامتياز، فهو فلاح مصرى أصيل ينتمى إلى طين هذا البلد، ويعانى من سوط الغطرسة التركية الذى يقاسى منه أبناء جلدته، ورغم تواضع الظروف التى عاشت فيها عائلته بقرية «هرّية» بالقرب من الزقازيق، فإنه كان يفاخر باستمرار بنسبه إلى «السادات» الذين يمتد نسبهم إلى البيت النبوى الكبير، تماماً مثلما كان يفاخر «أدهم» فى الخلاء بنسبه إلى الجبلاوى جبار البيت الكبير. مكّنت الظروف «عرابى» من القرب من شخص الوالى سعيد بن محمد على الذى أحبه المصريون بسبب انحيازه للأداهم الفلاحين، وهو التوجه الذى نكص عنه الخديو إسماعيل بعد تولى الحكم، حيث فضّل الجراكسة «الأبالسة» على «الأداهم» الفلاحين.