بقلم: د. محمود خليل
هل الدخول إلى عصر الذكاء الاصطناعى والوصول إلى مجتمع الـ20% عاملين والـ80% على باب الله، يشكل نوعاً من الحتمية؟. سيطرة العلم على الحياة مع تطور المسيرة البشرية مسألة لا خلاف عليها. فمنذ المحطة الأولى التى انطلقت فيها رحلة العلم على الأرض وهو يحقق إنجازات ويحتل مساحات ويشغل أدواراً كان يقوم بها الإنسان، لكن يبقى أنه لا يوجد شىء حتمى فى الحياة سوى الموت، وما عدا ذلك فمحكوم بظروف وأقدار، ولا يستطيع بشر أن يفرض على غيره ما يريد إلا إذا استسلم المقهور للقاهر. الإنسان يمكن أن يصبر كثيراً ويضحّى كثيراً ويصمت كثيراً، لكن ليس فى مقدوره أن يصبر أو يضحى أو يصمت إلى ما لا نهاية. لو كان ثمة من يتحكم فى مصائر البشر ويستغل محنهم -مثل محنة كورونا- ويريد أن يستثمرها فى بناء نظام اقتصادى جديد أقل عدالة فقد ينجح وقد لا ينجح. النجاح فى كل الأحوال ليس حتمياً، خصوصاً إذا استوعب البشر النتائج المدمرة التى يمكن أن تترتب على هذه التحولات. وظنى أن أى تحول يعمل ضد الإنسان هو تحول مدمر.
المتابع للسينما العالمية يلاحظ اتجاه الكثير من الأفلام -التى أنتجت خلال الفترة الأخيرة- للتنبيه إلى الطريق الذى تريد الرأسمالية المتوحشة جر العالم إليه. من ذلك على سبيل المثال فيلم «ألعاب الجوع» Hunger Games، وكذلك فيلم «المنصة» The Platform. الفيلمان كلاهما يعالج فكرة حرب الضعفاء ضد الجوع. فكرة «فائض رضعة الأثرياء» واضحة بدرجة أكبر فى فيلم «المنصة»، وفكرته لطيفة وبسيطة وأيضاً عبقرية، فهو يدور فى بناء متعدّد الطوابق تتوسطه بئر عميقة تُفضى إلى مستوياته أو طوابقه المتتابعة، التى لا يعلم أحد عددها على وجه التحديد. فى كل مستوى يعيش اثنان من المساجين بأحكام أو بالإرادة الذاتية لاختبار تجارب معينة. الأحداث كلها ترتبط بالمنصة (منصة الطعام) التى تبدأ فى الوصول أول ما تبدأ إلى من يعيشون فى المستوى الأول ليأكل ساكناه، ثم تنتقل عبر البئر أو الحفرة إلى المستوى الثانى، وهكذا دواليك. الساكنان فى كل مستوى يأكلان ما يفيض من طعام ساكنى المستويات السابقة لهم، ويتركون البواقى لمن يليهم. وهكذا تتنقّل منصة الطعام من مستوى إلى آخر حتى تبلغ المستويات الدنيا (التى لا يعلم أحد عددها)، وقد فرغت من أى شىء، فيضطر من لا يجدون الطعام إلى أكل بعضهم البعض.
فكرة الفيلم صادمة ومؤلمة، وظنى أن صناع الفيلم قصدوا ذلك، فالإنسان الخاضع للصدمة لا تفيقه إلا صدمة أكبر وأشد إيلاماً، وهو ما يفعله الفيلم بالضبط، حين يأخذ المشاهد رويداً رويداً إلى فكرة أن عدم الاستسلام لنظام عادل يرعى الجميع، القوى والضعيف، الرجل والمرأة، الطفل والصغير، الغنى والفقير، سوف يؤدى بالبشر إلى أن يأكل بعضهم بعضاً، وسيدفع بالضعفاء -مهما طال أمد استسلامهم- إلى المقاومة، وتدمير كل شىء. على الإنسان المعاصر أن يتفهّم أنه وقف عاجزاً أمام فيروس كورونا الذى لا يرى بالعين المجردة. هذا الفيروس يحمل رسالة إلى كل البشر، رسالة تقول للإنسان: «إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً».