بقلم: د. محمود خليل
اختلفت الأحوال وتبدلت الأطوار بعد أن صعد محمد على إلى القلعة على أكتاف حجاج الخضرى وأمثاله من الأداهم الذين لم ترضهم سيرة «خورشيد»، حين أقلق عيشهم وهدد أمنهم وألهبهم بالمظالم. فى ذلك الوقت كان الكثير من الأهالى يمتلكون ما يدافعون به عن أنفسهم ضد غارات المماليك وسلب ونهب الأنؤود والدلاة والانكشارية، فكانوا يعاركونهم دفاعاً عن عيشهم بالنهار، ويسهرون بالليل شاهرين السيوف والعصى حماية لبيوتهم وحوانيتهم. وبهدف تهدئة الأوضاع وتهيئة البلاد لنوع من الاستقرار نادى المنادون فى القاهرة -كما يحكى الجبرتى- بالأمن والأمان والبيع والشراء، وأن الناس يتركون حمل الأسلحة بالنهار، وإذا وقع لأى منهم قباحة رفعوا الأمر إلى محمد على.
استهدف القرار الذى اتخذه الوالى السيطرة على الأوضاع المضطربة فى البلاد، وشأنه شأن كل القرارات النظامية التنظيمية لم تعجب شخصية «أدهم» الذى قفز داخل العوام فصرخوا جميعاً فى وجه عمر مكرم: «إيش هذا الكلام؟.. والله لا نمتثل لهذا الكلام ولا لهذه المناداة». كان حجاج الخضرى أكثر الأهالى حيرة، فهو أشدهم حاجة إلى سلاحه بعد الدور الذى لعبه فى الإطاحة بخورشيد باشا وتولية محمد على، وهو يعلم أن جنود «خورشيد» لن يتركوه فى حاله وسوف ينتقمون منه. قرر «حجاج» الهرب من القاهرة إلى مسقط رأسه فى «المنوات» فمكث فيها زمناً، ثم ذهب إلى الأمير محمد بك الألفى وانضم إلى رجاله. ولعلك تعلم أن «الألفى» شكّل أكبر تهديد لحكم محمد على، وأن الأخير لم يستقر على كرسيه فى القلعة إلا بعد الوفاة المفاجئة للأول. وبعد حين طرد محمد الألفى «الخضرى» بسبب خلاف وقع بينهما، فراسل الأخير عمر مكرم فكتب له أماناً من محمد على عاد على أثره إلى القاهرة، وقابل الوالى، وخلع عليه، ونادوا له فى خطته (حى الرميلة) بأنه على ما هو عليه فى حرفته وصناعته ووجاهته بين أقرانه، فصار يمشى فى المدينة وبصحبته جندى ملازم له.
دراما حياة «الخضرى» تقول إنه كان صاحب نفس أبية حرة منطلقة، ظهر ذلك فى دفاعه المستميت مع أولاد البلد عن محمد على، وبلائه الحسن فى مواجهة خصومه، لكن مشكلته الكبرى أنه لم يفرق بين ظرف التغيير الذى برر له وللأهالى حمل السلاح، وظرف الاستقرار الذى بدأ يسود بعد أن تولى محمد على الحكم، لقد أراد أن يحتفظ بسلاحه وبالفرقة التى كان يقودها فى الرميلة فى وقت كان الوالى يبحث فيه عن تهدئة الأوضاع وتنظيم حق استخدام القوة وجعله فى كنف الدولة، وهو ما لم يرض «الخضرى» ففر إلى «الألفى» ثم عاد إلى القاهرة بعد أن حصل له عمر مكرم على «كتاب أمان» من الوالى، لكن لم يطل به المقام فى العاصمة، فقد اختفى فجأة كما يسجل «الجبرتى»، ولا يدرى أحد هل هام على وجهه فى بر المحروسة، أم قُتل على يد جنود خورشيد المتربصين به، أم على يد الوالى الجديد؟. مات «الخضرى» لكن حلم «أدهم» -بائع الخضار- فى الحديقة والناى ظل حياً.