بقلم: د. محمود خليل
من يقرأ الأرقام المتعلقة بمعدلات الزواج والطلاق سيشعر بالعجب، فخلال عام 2018 وصل عدد حالات الطلاق إلى مليون، بواقع حالة واحدة كل دقيقتين ونصف. بالحسابات الرقمية تبلغ نسب حالات الطلاق إلى عدد حالات الزواج الجديد ما يزيد قليلاً على 20%. المجلس القومى للمرأة يقول إن هذه النسبة منطقية إذا قارناها بالنسب الشبيهة بين شعوب العالم المختلفة. وحقيقة الأمر فإن من يراجع التحليل البديع الذى قدّمه جمال حمدان فى كتابه «شخصية مصر» حول القضية السكانية فى مصر سيجده يشير إلى أن نسب الطلاق خلال القرن التاسع عشر كانت تتراوح ما بين 20% و25%.
من يقارن بين أرقام الطلاق والعنوسة فى مصر على محورى الجغرافيا والتاريخ قد يقول: ليس ثمة مشكلة. فالمعدلات لدينا لا تزيد على المعدلات العالمية، وكذا المعدلات التاريخية فى مصر المحروسة، لكن هناك عوامل أخرى لو أخذناها فى الاعتبار فسوف نخلص إلى أننا نواجه مشكلة بينة الخطورة.
تحمل أرقام الزواج والطلاق فى مصر إرهاصة إلى ميل شديد الخطورة لدى الأجيال الجديدة من الشباب نحو ما يمكن أن نطلق عليه «التفكّك الاجتماعى». زمان كان الزواج وتكوين أسرة يأتى على رأس أولويات الشاب أو الفتاة بعد التخرّج. الأمر اختلف بين الجيل الجديد، إذ أصبح الزواج وتكوين أسرة يتأخر على أجندة أولوياته. والسبب فى ذلك أن من يقدم على الزواج من أبناء هذا الجيل يتحمّل أعباءً تقع فى دوائر «الخيال العلمى». أحد الشباب المتزوجين حديثاً حكى لى عن حاجته إلى مئات الألوف من الجنيهات لينفقها على زوجته التى توشك على الوضع. سألته: لماذا؟.. هل تكلفة الولادة زادت إلى هذا الحد؟ فأجابنى بأن زوجته مصرّة على أن تسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتضع حملها هناك حتى يحصل على الجنسية الأمريكية، ويصبح طفلها «أمريكانى»!. وعندما أبديت له دهشتى، سارع إلى القول: ليست زوجتى الوحيدة التى تفكر على هذا النحو!. أكيد أن الطلاق فى مثل هذه الأحوال أرخص!.
إذا كانت الحال كذلك بالنسبة لمن يجد من يساعده على «العيشة المخملية» فما القول بالنسبة لمن يحصل على رزقه بالنبش بالأضافير؟. شواهد كثيرة تقول إن غريزة البحث عن الطعام -وكذا استهلاك الكماليات- أصبحت تتفوق على أى غريزة أخرى لدى القطاع «محدود الدخل» من الجيل الجديد. والمفارقة أن الكادح الذى لم يكن يملك ما يتزوج به فى عقود سابقة كان لا يتوقف عن الشكوى، أما الكادحون المعاصرون من الجيل الجديد فلا يجدون مشكلة فى تأخر سن الزواج، أو فى عدم الإقدام على هذه الخطوة من الأصل. فالإنفاق -حتى لو كان قليلاً- على المتع الفردية الاستهلاكية قد يزيد فى قيمته بالنسبة لهم عن تحمّل أعباء زوجة وأطفال. أضف إلى ذلك ما يلاحظونه من ارتفاع حالات الإقدام على الطلاق بين أبناء عمرهم.
نحن أمام إرهاصة خطيرة للتفكك الاجتماعى مدارها 3 أمور: الأول أن الانتماء إلى «جروب» أصبح يغنى عن فكرة الانتماء إلى أسرة أو تكوين أسرة، والثانى أن غريزة «الاستهلاك» أصبحت تعلو على ما عداها من غرائز لدى الجيل الجديد، والثالث أن الواقع الافتراضى أصبح ساحة من ساحات الحياة تنافس الواقع الحقيقى. ولو أنك تأملت بعض مشاهد الزواج والطلاق والولادة والعنوسة من حولك ستجد أننا أمام مشكلة ثقافية بالأساس.. وعلاجها ليس سياسة ولا اقتصاداً قدر ما هو «ثقافة».