بقلم: د. محمود خليل
فى بداياته الأولى فى حكم الأدهمية مال الرئيس «مبارك» إلى البعد عن المشكلات وعدم إرهاق رأسه بالتفاصيل، اللهم إلا إذا كانت التفاصيل مسلية وتسهم فى تدليك العقل وارتخائه. فى ظل هذه الفرضية من المهم أن نسأل كيف نظر «مبارك» إلى شعب الأدهمية عندما شاءت الأقدار أن يصبح رئيساً لها؟. بإمكاننا استخلاص إجابة عن هذا السؤال من خلال تأمل إحدى الفقرات التى جاءت على لسان «مبارك» فى لقاء جمعه بمحمد حسنين هيكل بعد شهور قليلة من توليه الحكم، وسجلها الأخير فى كتابه: «من المنصة للميدان». قال «مبارك» لضيفه: «الناس كده ليه؟.. ليس عندهم إلا طلبات، يحفظون الحقوق وينسون الواجبات، والمصيبة أنهم جميعاً متخانقين، وطلباتهم متعارضة، لا أعرف كيف تحمل الرئيس جمال أو الرئيس أنور؟. أنا شخصياً، ولم أقض فى الرئاسة إلا شهوراً طلعت روحى!.. والله لو تعبت من كثرة الطلبات والخلافات سوف أتركها لهم وأسلم كل شىء للقوات المسلحة وأترك الجميع ياكلوا فى بعضهم وأخلص نفسى».
نحن أمام شخصية ترى جموع «الأداهم» مصدراً للصداع، وتعتبر حكمهم عبئاً كبيراً، والسبب فى ذلك مجموعة من الآفات التى تحكم تفكيرهم، من بينها «كثرة الطلبات»، وأنهم «يطلبون الحقوق وينسون الواجبات»، وكلهم «متخانقين مع بعض» بسبب «تعارض الطلبات» وأن «الرئاسة عبء»، وأنه إذا تعب سيترك الجميع «ياكلوا فى بعض» و«يخلص نفسه». إلى ماذا تؤشر هذه الرؤية فيما يتعلق بتصور «مبارك» للذات وللآخر الأدهمى؟. العبارة تحمل مؤشراً إلى «خطورة الدور» الذى رأى «مبارك» أنه يلعبه بعد توليه الرئاسة، ومما يثير العجب أنه أراد أن يشرح ذلك لرجل «هيكل» تعامل عن كثب مع الرئيسين السابقين «ناصر والسادات»، لكن يبدو أن «مبارك» أراد أن يعيش لحظة إعجاب بعبقريته الذاتية التى رآها فيه السادات -ولم يكن يدركها هو فى نفسه- فدفع به إلى المنصب، وهى العبقرية التى كان مبارك يشك أن «هيكل» يستوعبها، كجزء من تشككه فى قرارات «السادات» وموقفه السلبى منه الذى اتضح تفصيلاً فى كتابه «خريف الغضب».
وتؤشر العبارة «المباركية» أيضاً إلى أن نظرته للأداهم لا تتجاوز نظرة «رئيس العمل» إلى مجموعة من الموظفين الذين يعملون معه. فالسمات التى ذكرها للمواطن هى بالتحديد سمات الموظفين المتمثلة فى كثرة الطلبات الفئوية، ولأنها فئوية فهى متعارضة، كما أنهم يميلون إلى دق الأسافين فيما بينهم، ويشددون فى المطالبة بحقوقهم فى وقت يهملون فيه واجباتهم. ومثل أى رئيس أو أى أب ينظر إلى عياله كعبء فإن الحل الأقرب إلى ذهنه عندما يضجر من الجمع الذى يعيش «عوالة» عليه أن يتركهم «ياكلوا فى بعض» وينأى بنفسه وبرأسه عن الصداع.
وجد «مبارك» فى الحكم عبئاً، فى حين كان يحلم به كحالة عز. وقد ذكر «هيكل» أن الرئيس قال له فى اللقاء الذى جمع بينهما وهو يحدثه عن أنواع السيجار: «يا أخى عاوزين نتعلم العز»!. العبارة منبئة وتعيد إلى الذاكرة حديث «عيشة الإكسلانسات» الذى ذكره مبارك فى 2005، وتؤشر إلى أنه كان مسكوناً بالحلم الأدهمى الشهير بالحديقة والناى والحياة الناعمة المخملية، وقد تشابه فى ذلك إلى حد كبير مع سلفه أنور السادات، لكن اختلف عنه فى عدم الميل إلى بذل الكثير من المجهود متأثراً بتجربته فى الصعود التى لعب فيها الحظ والتوفيق دوراً لا بأس به.