بقلم : محمود خليل
لا أجدنى بحاجة إلى سرد تفاصيل تحفظها جيداً عن حرب اليمن التى دخلتها مصر ضد أنصار حكم الأئمة المدعومين من المملكة العربية السعودية. ما يجب أن نبرزه فى هذا السياق أن جمال عبدالناصر قرر خوضها كرد فعل على زوال دولة الوحدة المصرية السورية عام 1961، وأن قرار الدخول فيها لم يكن مدروساً بالقدر الكافى، وليس أدل على ذلك من أن مصر بدأتها بقوات لا يزيد عددها على 2000 جندى وأخذت الأمور تتطور حتى دفعنا بعشرات الآلاف من الجنود والمعدات فى محاولة لحسم الحرب دون جدوى، ولعب المال دوراً مهماً فى الصراع الذى شهدته أرض اليمن، وكانت أكياس الفضة والذهب سلاحاً من ضمن الأسلحة التى تستعملها الأطراف المتصارعة هناك، وأخيراً فقد كان للاندفاع نحو خوض هذه الحرب أثر مباشر على النكسة التى ابتلينا بها فى 5 يونيو عام 1967.
ما يهمنا ونحن نتحدث عن هذه الحرب هو تحليل الطريقة التى تفاعل بها «أداهم المصريين» مع أحداثها التى طالت واستطالت حتى وضعت أوزارها عقب نكسة 1967، فقد هزت الحرب الأوضاع المعيشية للأداهم هزة كبيرة، بعد أن كادت للتو تسير على طريق الاستقرار، فاختفت بعض السلع التموينية، وقيل حينها إن السبب فى ذلك شحنات التموين التى يتم إرسالها إلى اليمن. وتوقف العمل أيضاً فى بعض المصانع، وتعثرت خطة بناء مدارس جديدة، ما اضطر القائمين على أمر التعليم إلى زيادة عدد التلاميذ فى الفصول ليصل إلى 60 تلميذاً. ومع توالى سنوات الحرب ضربت مصر أزمة اقتصادية عرقلتها عن تمويل الكثير من المشروعات المتعلقة بالكهرباء والمياه والصرف الصحى والنقل والمواصلات. نتائج كلها طبيعية وتترتب فى العادة على المغامرات غير المحسوبة، مثل مغامرة اليمن التى تمت تحت شعار دعم حركات التحرر والدفاع عن القومية العربية.
وعلى النقيض من عاصفة الشح التى ضربت قطاعاً لا بأس به من الأداهم بسبب حرب اليمن، بدأت قيمة الاستهلاك تتسلل إلى حياة فئة من الأداهم بشكل غير مسبوق. فبعد قيام ثورة 1952 بدأت السلع المستوردة فى الاختفاء من الأسواق المصرية. كان المحظوظون -من أغنياء الثورة الجدد- فقط هم من يستطيعون الحصول على المستورد عبر السفر خارج البلاد. كانت اليمن مصدراً مهماً من مصادر الحصول على السلع المستوردة، بدءاً من المكسرات ومروراً بالأجهزة الكهربائية وانتهاء بأطقم الصينى، وعلى هامش البضائع التى كانت تتدفق من هناك نشأت فى مصر سوق جيدة لبيع هذه السلع. وأصبح طموح بعض الشباب السفر إلى هناك وهم لا يعلمون ما يخبئه لهم القدر فى جبال اليمن وأرضها الممتدة، كان تفكيرهم منصرفاً إلى الجنيهات الغزيرة التى سيحصدونها كمرتبات، والسلع المشتهاة التى سوف يعودون محملين بها إلى أسرهم.
تسلل قيمة الاستهلاك إلى حياة أقلية من الأداهم خلال السنوات التى أعقبت حرب اليمن أحدث شرخاً أساسياً فى نفوس الكثرة الأدهمية التى تكتوى بنار الشح. وأخذ الشرخ فى الاتساع مع تمدد عادات الاستهلاك فى الحياة الأدهمية فى الستينات. وحول قيمة الاستهلاك تحلقت مجموعة من الآفات الأخلاقية الداهمة التى قلبت السلم القيمى الأدهمى رأساً على عقب، بحيث أصبحت الحياة فى الأدهمية المصرية تأخذ شكل المثلث الذى تشكل ثنائية «المعاناة/ الاستهلاك» قاعدته، و«الكذب والنفاق» ضلعاه.