بقلم: د. محمود خليل
عاش آدم على الأرض مؤرقاً بالحنين إلى الراحة، كل لحظة شقاء، أو انكسار أو انهزام تذكره بذاك الحنين، وذلك الشوق الذى لا ينقضى بالعودة إلى هناك، حيث الحياة المتدفقة السلسة الممتعة. ولست أجد أكثر عبقرية من الوصف الذى قدمه المبدع الكبير نجيب محفوظ، وهو يحكى قصة أدهم، ضمن حكايات «أولاد حارتنا» التى خضنا معها رحلة سوف نستأنفها فيما بعد إن شاء الله. يقول «نجيب»: كان أدهم يقول لنفسه وهو يعيش فى حديقة البيت الكبير «الحديقة وسكانها المغردون والماء والسماء ونفسى النشوى، هذه هى الحياة الحقة». ولما طرده «الجبلاوى» من البيت الكبير، وتركه فى العراء وتحول إلى «بائع خيار» كى يعيش، حدث ذات يوم أن نعس من التعب أسفل شجرة، بعد أن تشققت قدماه من السير وهو يجر العربة، فانتهز مجموعة من الأطفال فرصة نومه، وقلبوا له العربة، فاستيقظ من نومه مفزوعاً وهو يسب ويلعن، ثم انكب على الأرض يجمع البضاعة، وراح يقول بتأثر وانفعال مخاطباً «الجبلاوى»: «لماذا كان غضبك كالنار تحرق بلا رحمة؟ لماذا كان كبرياؤك أحب إليك من لحمك ودمك؟ وكيف تنعم بالحياة الرغيدة وأنت تعلم أننا نداس بالأقدام كالحشرات؟ والعفو واللين والتسامح ما شأنها فى بيتك الكبير أيها الجبار؟».
أطار الشقاء عقل آدم الأب، كما يطير عقل كل الأوادم، لكنه تعلم فى كل الأحوال أن ينتظر تلك اللحظة التى تدركه فيها رحمة الله. وكما كان «لقاء الرحمة» فوق صخور «عرفات»، كان «نداء الرحمة» لآدم (عليه السلام) فوق هذا الجبل أيضاً. يحكى «ابن الأثير» أنه لما أتم آدم بناء الكعبة المشرفة من أحجار خمسة جبال وطاف بها، جاءه نداء العودة من خالقه: «أسس آدم البيت من خمسة أجبل: من طور سينا، وطور زيتون، ولبنان، والجودى، وبنى قواعده من حراء، فلما فرغ من بنائه، خرج به الملك إلى عرفات فأراه المناسك التى يفعلها الناس اليوم، ثم قدم به مكّة فطاف بالبيت أسبوعاً، ثم رجع إلى الهند فمات على نود».
شاء الله تعالى أن يكون «عرفات» مسرحاً للقاء الرحمة الخالد بين آدم وحواء، لكن بنى آدم كان لهم رأى آخر فى المسألة، فلم يتورع بعضهم عن تحويل الجبل المقدس إلى ساحة اقتتال، تراق فيها الدماء، وتنتهك فيها كل المحرمات، ناسين الوصية الخالدة التى جلجل بها النبى فى «حجة الوداع» وهو يعظ المسلمين بحرمة الدم. لم يتورع «الحجاج بن يوسف الثقفى» على سبيل المثال عن قصف الحرم بالمنجنيق، خلال صراعه العسكرى مع عبدالله بن الزبير، إلى حد دفع ابن عمر (رضى الله عنهما) إلى مخاطبة الحجاج فى رسالة شهيرة قائلاً: «اتق الله واكفف هذه الحجارة عن الناس فإنك فى شهر حرام وبلد حرام، وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله ويزدادوا خيراً، وإن المنجنيق قد منعهم عن الطواف، فاكفف عن الرمى حتى يقضوا ما يجب عليهم بمكة. فبطل الرمى حتى عاد الناس من عرفات وطافوا وسعوا، ولم يمنع ابن الزبير الحجاج من الطواف والسعى، فلما فرغوا من طواف الزيارة نادى منادى الحجاج: انصرفوا إلى بلادكم فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير الملحد»!