بقلم: د. محمود خليل
رمّم انتصار أكتوبر 1973 الصدع الذى أحدثته نكسة 1967 فى النفس المصرية، وكان من الممكن أن تسير الأمور بعد الحرب فى اتجاه الالتحام النفسى الكامل وعودة الأمور إلى سيرتها الأولى، ليعود المواطن إلى سابق شغفه بالبحث عن المعنى والقيمة فى الأشياء والكلمات والأفعال والسلوكيات، لكنَّ أحداثاً جدَّت تسببت فى تحول الجرح إلى ما يشبه العاهة المستديمة. تحولات عدة شهدها المجتمع بعد انتصار أكتوبر كان أخطرها صدور قانون الانفتاح الاقتصادى وسيطرة ثقافة السوق على الحياة فى مصر، فانتعش الطلب على الاستهلاك وتراجع على الإنتاج، وانعكس هذا الأمر على الإنتاج الفنى الغنائى والسينمائى، على وجه الخصوص، فتخلَّى عن التزامه المعهود بقضايا المجتمع والقيام بأدواره فى التوعية والتنوير والارتقاء بفكر المتلقى ووجدانه.
شكَّل عام 1977 محطة مفصلية فى إحياء الطلب على التفاهة الفكرية والفنية والتعليمية وهلمَّ جرا، وهو الطلب الذى أنعشته النكسة، ثم هذب انتصار أكتوبر منه بعض الشىء. أوائل هذا العام بدأت بركات الانفتاح تهل على الشعب المصرى فى أحداث 18 و19 يناير. الانفتاح لم يكن توجُّهاً سيئاً، لكن عابه أمران، أولهما أن نسبة لا بأس بها ممن تصدروا المشهد الاقتصادى كانوا من المغامرين والفسدة والمرتزقة والمهلباتية، ولم يكونوا رجال أعمال حقيقيين قادرين على دفع عجلة الاستثمار والتنمية، وثانيهما أن الانفتاح السياسى الذى صحب شقيقه «الاقتصادى» أفرز أيضاً سياسة فاسدة، فنتج عنه أحزاب ورقية لا تجد صدى لها فى الواقع، ويقتصر وجودها على مجرد صحيفة تصدر عنها. أما الشارع السياسى فقد ترك مفتوحاً أمام الجماعات الإسلامية وعلى رأسها الإخوان لتتحرك فيه كيفما تريد وبدعم ملموس من السلطة حينذاك.
فى مارس 77 توفَّى عبدالحليم حافظ، ومن قبله بعام توفِّى فريد الأطرش، ومن قبل «فريد» بعام ماتت أم كلثوم. وبدأ المغامرون والفسدة والمرتزقة الدخول إلى عالم الفن، معتمدين على معادلتهم الخالدة «اخطف واجرى». فبدأت الرداءة والتفاهة تتسحب إلى الفن. وكان شارع الهرم الحضانة الكبرى لنوعية معينة من الزبائن التى تختلط -فى حياتها- متعة الأكل بمتعة الشرب بمتعة المشاهدة أو الاستمتاع بمتع أخرى عديدة، كان لهذه النوعية ذوقها الخاص، وكانت تملك المال الذى تفرض به هذا الذوق على الفنانين، وأيضاً على الجمهور من خلال امتلاكها للمال اللازم للإنتاج الفنى. وكان تمكن ثقافة الهزيمة من نفوس أبناء هذا الشعب سبباً مهماً من الأسباب التى أدت به إلى قبول السلع الفنية الفاسدة التى كان يلقيها هؤلاء إليه، تماماً مثلما كان يطعم الفراخ واللحوم الفاسدة التى تم الكشف عن صفقاتها بعد وفاة السادات رحمه الله!.
قد يسأل سائل: ولماذا تنظرون إلى ما يفضله الجمهور على أنه تافه وردىء.. من حق الناس أن تختار ما يروق لذوقها؟. سؤال فى محله لا خلاف على ذلك، لكننى أريد أن أذكر من يتجول هذا السؤال فى عقله بأن هذا الجمهور نفسه كان يتفاعل بل وينفعل بالعديد من الأعمال الدرامية التى نجت من هذا التحول، بل واجتهدت فى كشف آثاره ونتائجه الوخيمة على عقل المصريين ووجدانهم. ربما شاهدت فيلم «انتبهوا أيها السادة» الذى فضح التحول فى قيم المصريين، حين قدّموا المال على العلم، وأصبح «الزبال» -مع كامل احترامى لمن يعمل فى هذه المهنة- بطل المرحلة الذى تمكن من هزيمة أستاذ الجامعة الفقير البائس؟ لعلك تذكر أيضاً فيلم «أهل القمة» وفيلم «إنقاذ ما يمكن إنقاذه» وغيرها كثير. الدراما التليفزيونية أيضاً حملت العبء الأكبر فى مقاومة هذا التحول، ويكفى فى هذا السياق أن نشير إلى أعمال الراحل أسامة أنور عكاشة، لعلك تذكر مسلسل «الراية البيضاء» وتنبيهه منذ فترة مبكرة إلى زحف التفاهة والسوقية والابتذال على الثقافة والفن، وكيف وقعت المواجهة بين «فضة» تاجرة السمك والسفير مفيد أبوالغار، وكذلك مسلسل «أبوالعلا البشرى» الذى كشف انسحاق المصرى أمام سلطان المال. مؤكد أن عدداً لا بأس به من مبدعينا وفنانينا حاولوا صد فيضان التفاهة، لكن أموراً عديدة جدت خلال الفترة التى أعقبت حقبة السبعينات أدت إلى أن يجتاح الفيضان الواقع بأكمله.