بقلم: د. محمود خليل
القارئ للكتاب الذى ألفه سيد قطب بعنوان «السلام العالمى والإسلام» يمكن أن يلاحظ حالة التأرجح التى جعلت الكاتب ينتصر فى بعض المواضع لفكرة أن «السلام» قاعدة من القواعد المحددة لعلاقة المسلم بالآخر، ثم يتراجع فى مواضع أخرى ويؤكد أن الحرب ضرورة من ضرورات نشر الدعوة الإسلامية، وهو يقصد بذلك الحرب الهجومية والتى استند فى التأصيل لها إلى فهم ملتبس وغير دقيق لعدد من الآيات الكريمة من سورة «التوبة». تأمّل هذه الفقرة من الكتاب، وفيها يتحدث سيد قطب عن السلام كمبدأ أصيل فى الإسلام بقوله: «فكرة السلام فى الإسلام أصيلة عميقة، تتصل اتصالاً وثيقاً بطبيعته وفكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان. هذه الفكرة التى ترجع إليها نظمه جميعاً، وتلتقى عندها تشريعاته وتوجيهاته، وتجتمع إليها شرائعه وشعائره، بشكل لا يخطر على بال الباحثين الدارسين أنفسهم لهذا الدين، إلا أن يبلغوا بالبحث والدرس إلى الجذور العميقة البعيدة ويتتبعوا امتدادها وتفرعها، فى يقظة وصبر وإحاطة».
هذه الفقرة من الكتاب ترد على التناول الذى قدمه سيد قطب لمفهوم الجهاد وآيات القتال فى كتابه «معالم فى الطريق». ففكرة السلام هى الأصل الدائم فى الإسلام، أما الحرب فمسألة طارئة ترتبط بظروف اعتداء الغير، ومدارها دفع الاعتداء عن الذات المسلمة. يقرر سيد قطب فى كتابه «السلام العالمى والإسلام» أن الإسلام ينفى منذ الخطوة الأولى معظم الأسباب التى تثير فى الأرض الحروب، وينكر الحروب التى تتستر خلف أهداف قومية أو استعمارية أو استغلالية، ويؤكد أن الحرب فى الإسلام لها هدف واحد، هذا الهدف هو أن تكون كلمة الله هى العليا. ويؤسس سيد قطب هذا الفهم للحرب فى الإسلام على الحديث النبوى الذى يقول: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليُرى، فمن فى سبيل الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله». وبناء على ذلك يقدم «قطب» شرحاً لهذا المعنى بقوله: «إن كلمة الله هى التعبير عن إرادته، وإرادته الظاهرة لنا نحن البشر هى التى يقررها سبحانه ويحددها كلامه (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) ولا يكون الدين كله لله إلا عند إفراد الله تعالى بالألوهية والربوبية والعبادة والطاعة والدينونة».
هنا يبدو التأرجح فى كلام سيد قطب، فبعد أن تحدّث عن السلام كأصل، إذا به ينفلت إلى الحديث عن الحرب كأداة لقهر الناس على الإيمان بالله تبعاً للتصور القطبى، وقال إن ذلك هو «سبيل الله». وحقيقة الأمر أن سيد قطب اقتطع الآية الكريمة (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) من سياقها، ولو أنه وضع الآية التى سبقتها فى الاعتبار لخلص لغير ما خلص إليه. تقول الآيات الكريمة من سورة الأنفال: «قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». يشير «الطبرى» فى تفسير الآيات إلى أن الله تعالى يوجه النبى قائلاً: وإن يعد هؤلاء لحربك فقد رأيتم سنتى فيمن قاتلكم منهم يوم بدر، وأنا عائد بمثلها فيمن حاربهم منكم، فقاتلوهم حتى لا يكون شرك، فيرتفع البلاء (الفتنة) عن عباد الله، وحتى تكون الطاعة والعبادة كلها خالصة لله دون غيره.
الحرب فى الإسلام أساسها دفع الاعتداء حماية للأرض من الفساد ودفاعاً عن الحياة ووقوفاً فى وجه من يحاول تدميرها. تلك هى الحرب الشريفة التى تجعل من المشارك فيها مدافعاً عن «كلمة الله». هذا ما يُفهم من الآية القرآنية الكريمة: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ»، والآية الكريمة: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ». الحرب فى الإسلام هى حرب دفاع عن المستضعفين فى الأرض: «وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ». وفى كل الأحوال تبقى الحرب ضرورة تمليها ظروف مؤقتة. أما السلام فهو القاعدة والأصل فى الإسلام.