بقلم: د. محمود خليل
النص القرآنى نص إلهى نزل به الروح الأمين على قلب النبى صلى الله عليه وسلم. ومن لسان النبى تلقف المسلمون سور القرآن وآياته الكريمة، وشرعوا فى تفسيرها وفض معانيها. وعبر عقول المفسرين والمؤولين لآيات الكتاب بدأت نصوص جديدة فى الميلاد والوجود غطت فى بعض الأحوال على النص الأصلى (القرآن الكريم)، وأصبحت المصدر الأهم الذى يعتمد عليه المسلمون فى فهم دينهم، ومع عدم إنكارنا لقيمة هذه النصوص، إلا أنها فى الأول والآخر نصوص مولدة عن النص الأصلى وهى تحمل رؤى بشرية اجتهادية لا تتمتع بما يتمتع به القرآن من قداسة، وبالتالى فهى نصوص يؤخذ منها ويرد. أغلب المسلمين لا يميلون إلى إجهاد ذهنهم فى فهم القرآن مكتفين بالشروح التى تقدمها النصوص المولدة لفهم أمور دينهم، لكنهم يهتمون فى المقابل كل الاهتمام بحفظ الكتاب الكريم. فمنذ بعثة النبى صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن الكريم تخصصت فئة من المسلمين الأوائل فى حفظه فى الصدور. وهى الفئة التى أطلق عليها فى ذلك الزمن «القراء» أى حُفاظ القرآن الكريم. ولا يزال الاهتمام الأكبر من جانب الكثير من بسطاء المسلمين حتى يوم الناس هذا موجهاً إلى حفظ القرآن الكريم، ليس ذلك وفقط بل إن مؤسسات رسمية عديدة تنشغل بتحفيظ القرآن الكريم وتنظيم المسابقات ومنح الجوائز للأكثر قدرة على حفظ واسترجاع آياته الكريمة.
لك أن تقوم بتجربة بسيطة لتعرف معدل اهتمام أى مسلم بحفظ القرآن الكريم مقارنة بفهم آياته. سل عينة ممن حولك عن معنى كلمة «الصمد» فى الآيات الكريمات من سورة الإخلاص: «قل هو الله أحد الله الصمد». ستجد أغلب من حولك يحفظون الآية وأقلهم يعرف معناها. ثم تعالَ وتأمل أول آية نستقبل بها المولى عز وجل فى كل صلاة، آية «الحمد لله رب العالمين». وهى آية صريحة فى الدلالة على أن الله تعالى رب كل العوالم التى يحتشد بها الكون، وليس رب المسلمين وحدهم، لنا أن نسأل: إلى أى حد يحتكم المسلمون إلى مفهوم «ربوبية الله للجميع» بما يحمله مفهوم الربوبية من معانى الرحمة والعطاء والعدل وغير ذلك فى التعامل مع الآخرين؟. فى كل الأحوال يشعر أى متأمل للقرآن الكريم بحجم المفارقة بين ما يدعو إليه من أخلاقيات وما يحده من حدود تمنع اعتداء البشر على بعضهم البعض وتأكيده على ثقافة السلام والتعارف والتعايش بين البشر، وما يميز سلوكيات بعض أدعياء التدين من المسلمين من فقر أخلاقى وفوضوية واندفاع إلى أذى الآخر وانغلاق بعض هؤلاء الأدعياء على أنفسهم. ترى ما السبب فى هذه المفارقة؟
الأغلب أن العلة فى هذه المفارقة ترتبط بالاحتكام إلى ظاهر الآيات وبعض الأقوال الموروثة فى الاستدلال على معانى النصوص القرآنية. دعنا نستشهد من جديد بفاتحة الكتاب التى يستقبل بها المسلم صلاته ويردد فيها قوله تعالى «اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غيرِ المغْضُوبِ عَلَيْهمِ ولا الضَّالين». لو أنك سألت بعضاً من المسلمين العاديين فى معنى المغضوب عليهم أو الضالين فسيقولون إن المقصود بهم من غضب الله عليهم من عباده بسبب عدم طاعتهم له أو ضلوا عن هدى الله، ذلك إذا لم يكونوا من قراء التفاسير ويعتمدون على الاستدلال العقلى والفطرى على معانى الكتاب الكريم، ولو أنك سألت فى المقابل أحد أعضاء الجماعات الإسلامية حول معنى المغضوب عليهم أو الضالين فربما حصلت على شرح مختلف للدلالات، فقد تسمع من بينهم من يقول إن المغضوب عليهم هم «اليهود» أما «الضالين» فهم «النصارى». والسر فى ذلك هو ما تذهب إليه بعض التفاسير فى تأويل معنى الآية، مثل تفسير «ابن كثير» الذى يشير إلى حديث سأل فيه بعض الصحابة النبى صلى الله عليه وسلم عن المقصود بالمغضوب عليهم فقال لهم «اليهود» وسألوه مَن المقصود بالضالين فقال «النصارى». وهو تأويل يتناقض مع المفهوم الذى تأسست عليه فاتحة الكتاب «الحمد لله رب العالمين». فالمغضوب عليهم تشمل كل مَن يخرج عن طاعة الله مسلماً كان أم مسيحياً أم يهودياً، وكذلك مَن يضل. فالضلال ليس مكتوباً على جنس بعينه أو فئة بعينها من البشر.