بقلم: د. محمود خليل
لعلك تذكر العبارة التى قالها عبدالمطلب بن هاشم، جد النبى صلى الله عليه وسلم، فى مواجهة «أبرهة» الحبشى الذى غزا مكة ساعياً إلى هدم البيت الحرام. فقد أنكر «أبرهة» حديث عبدالمطلب عن الإبل التى سلبها الأحباش منه، دون أى إشارة إلى موضوع البيت الحرام الذى جاء لهدمه. فرد عليه عبدالمطلب قائلاً: «أنا رب (أى صاحب) الإبل.. أما البيت فله رب يحميه».
لا خلاف على أن عبارة «عبدالمطلب» تعكس إيماناً راسخاً برب البيت، لكن سعيه إلى استرداد الإبل التى أصابها جنود أبرهة تعكس حرصاً عميقاً على مصالحه المالية. وهو أمر تربى عليه أهل قريش. هذه «الثقافة المصالحية» تشكل ركناً مهماً من أركان الشخصية البدوية، وبالتالى تجدهم منذ فترة مبكرة أقرب إلى الإيمان بالمقولة التى تقول: لا توجد عداوات دائمة ولا صداقات دائمة، بل توجد مصالح دائمة. لذلك لم يكن مستغرباً أن تستقر علاقة العرب بالحبشة، رغم تحرك «أبرهة» لهدم البيت الحرام، عندما وجدوا أن «المصلحة» تفرض عليهم ذلك.
التآمر جزء من تركيبة الشخصية الحبشية. ويحكى التاريخ أنه بعد سيطرة الحبشة على اليمن نشب صراع عنيف على السلطة بين كل من «أرياط» و«أبرهة»، وأصبح من المحتم وقوع مواجهة دامية بينهما، فلما شعر «أبرهة» بذلك دعا «أرياط» إلى مبارزة حرة بالحراب، يتخلص فيها أحدهما من الآخر. ومن يحيا بعد هذه المواجهة الدامية ينحاز إليه الجند المناصرون للآخر، حتى لا ينتهى الأمر بالجيش الحبشى إلى أن يفنى بعضه بعضاً. استجاب «أرياط» لدعوة «أبرهة»، وبدأت المبارزة الحرة. بدا «أرياط» أكثر تفوقاً، وقذف أبرهة بالحربة فوقعت على جبهته فشرمت عينه وحاجبه وأنفه، لكن الأخير كان ذا حيلة، إذ كان قد اتفق مع غلام له اسمه «عتودة» بأن يدركه إذا تفوق عليه «أرياط»، وكان له ما أراد، فما إن شعر «عتودة» بـ«أرياط» وقد أوشك على قتل «أبرهة» حتى طعنه من الخلف طعنة غادرة بخنجر فى يده، لقى على أثرها حتفه، ودان الأحباش بالطاعة لـ«أبرهة»، ورغم ذلك فقد ظل القلق يمزقه بسبب موقف «النجاشى» منه.
وكان «نجاشى» الحبشة قد غضب غضباً شديداً عندما علم بمقتل «أرياط» على يد غلام «أبرهة»، وأقسم ألا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته (أى يحلق له شعر رأسه)». أخذ أبرهة يفكر فى الأمر ويبحث عن حل لهذا المأزق الذى يمكن أن يدفع ثمنه غالياً. وكان الحبشى واسع الحيلة عظيم المكر، فقرر أن يلعب لعبة على الملك، فحلق رأسه، وملأ جراباً من تراب اليمن، ثم بعث به إلى النجاشى، ثم كتب إليه: «أيها الملك: إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك، فاختلفنا فى أمرك، وكل طاعته لك إلا أنى كنت أقوى على أمر الحبشة، وأضبط لها وأسوس منه، وقد حلقت رأسى كله حين بلغنى قسم الملك، وبعثت إليه بجراب تراب من أرضى ليضعه تحت قدمه فيبر قسمه فىّ». فلما انتهى ذلك إلى النجاشى رضى عنه، وجعله حاكماً للحبشة مكان القتيل «أرياط».
من الطبيعى أن تتوافق الشخصية المنسوجة بخيوط التآمر، مع الشخصية التى تبحث عن المصلحة. الصراع الذى نشب بين كل من «أرياط» وأبرهة أدير بـ«التآمر» وفرض الأمر الواقع، وانتصر فيه الأسرع إلى الغدر بصاحبه. وكان من الطبيعى أن تتناغم شخصية بهذه التركيبة مع الشخصية العربية البراجماتية التى يحكمها مبدأ البحث عن المصالح، وتجد فى الشخصيات المتآمرة ساحة أرحب واستعداداً أكبر للعب معها طبقاً لهذا المبدأ. البدوى يفهم دائماً أنه «رب إبل».