بقلم: د. محمود خليل
مثّلت واقعة «الحِرة» ثورة «أنصارية» خالصة ضد الحكم القرشى، يؤيد ذلك عزوف الكثير من القرشيين ممن يعيشون فى المدينة عن الانضمام إليها، رغم عدالة ووجاهة أسبابها من المنظور الدينى، خصوصاً أنها كانت انتفاضة ضد التحول الخطير إلى نظام «الملك العضوض»، بعد سنين من حكم الخلافة الراشدة، وتعبّر ثورة الحرة أيضاً عن وقوع تحول جذرى فى تفكير الأنصار، فى ما يتعلق بقبول مبدأ: «الأئمة من قريش»، وهو المبدأ الذى رضوا به بعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، قناعة منهم بأنه ولو كان أبوبكر وعمر وعثمان من قريش، إلا أنهم كانوا الأقدر والأجدر على حمل قيم النبوة وتفعيلها فى واقع الدين والدنيا، وقد اختلف موقفهم، عندما بدأ الحكم الأموى يفارق هذه القيم، وحينئذ لم تشفع له قرشيته، وبدأت ثورة الأنصار ضد مبدأ التمحك بالانتماء القبلى لحكم المسلمين، لأن الأولى بالدفاع عنه فى هذه اللحظة هو قيم الإسلام نفسه.
بعد أن رفض عمرو بن سعيد بن العاص قيادة جيش تأديب الأنصار، أرسل «يزيد» إلى مسلم بن عقبة المزنى، وهو شيخ كبير ضعيف، فانتُدب لذلك، وأرسل «يزيد» عشرة آلاف فارس، وقيل اثنى عشر ألفاً. وقد حاول النعمان بن بشير حقن دماء الأنصار وعرض على «يزيد» أن يتولى أمر المدينة ويحاول تهدئة الأوضاع، لكن «يزيد» رفض عرضه، وأصر على التعامل معهم بالغشمة والقتل. يقول صاحب «البداية والنهاية»: «قال النعمان بن بشير ليزيد: يا أمير المؤمنين ولّنى عليهم أكفك، وكان النعمان أخا عبدالله بن حنظلة لأمه عمرة بنت رواحة، فقال يزيد: لا ليس لهم إلا هذا الغشمة، والله لأقتلنهم بعد إحسانى إليهم، وعفوى عنهم مرة بعد مرة، فقال النعمان يا أمير المؤمنين أنشدك الله فى عشيرتك، وأنصار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال عبدالله بن جعفر: أرأيت إن رجعوا إلى طاعتك أيُقبل منهم؟، قال: إن فعلوا فلا سبيل عليهم، وقال «يزيد» لمسلم بن عقبة: ادع القوم ثلاثاً فإن رجعوا إلى الطاعة فاقبل منهم وكُف عنهم، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا ظهرت عليهم فأبح المدينة ثلاثاً، ثم أكفف عن الناس، وانظر إلى على بن الحسين فاكفف عنه، واستوصِ به خيراً وأدن مجلسه، فإنه لم يدخل فى شىء مما دخلوا فيه».
سار «مسلم» بمن معه من الجيوش إلى المدينة، فلما اقترب منها اجتهد أهل المدينة فى حصار بنى أمية، وقالوا لهم: والله لنقتلنكم عن آخركم، أو تعطونا موثقاً ألا تدلوا علينا أحداً من هؤلاء الشاميين، ولا تمالئوهم علينا، فأعطوهم العهود بذلك، فلما وصل الجيش تلقاهم بنو أمية، فجعل «مسلم» -قائد الجيش- يسألهم عن الأخبار، فلا يخبره أحد، وجاءه عبدالملك بن مروان، فقال له: إن كنت تريد النصر فانزل شرقى المدينة فى الحِرة، فإذا خرجوا إليك كانت الشمس فى أقفيتكم وفى وجوههم، فادعهم إلى الطاعة فإن أجابوك، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم، فإن الله ناصرك عليهم، إذ خالفوا الإمام وخرجوا عن الطاعة، فشكره مسلم بن عقبة على ذلك، وامتثل ما أشار به، فنزل شرقى المدينة فى الحرّة، ودعا أهلها ثلاثة أيام كل ذلك يأبون إلا المحاربة والمقاتلة، فلما مضت الثلاثة، قال لهم فى اليوم الرابع وهو يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذى الحجة سنة ثلاث وستين، قال لهم: يا أهل المدينة مضت الثلاث، وإن أمير المؤمنين قال لى إنكم أصله وعشيرته، وإنه يكره إراقة دمائكم، وإنه أمرنى أن أؤجلكم ثلاثاً فقد مضت، فماذا أنتم صانعون. أتسالمون أم تحاربون؟، فقالوا: بل نحارب، فقال: لا تفعلوا بل سالموا، ونجعل جدنا وقوتنا على هذا الملحد (يعنى ابن الزبير). فقالوا يا عدو الله لو أردت ذلك، لما مكناك منه، أنحن نذركم تذهبون فتلحدون فى بيت الله؟!.