بقلم: د. محمود خليل
لا نبالغ إذا قلنا إن كتب التراث رسمت صورة أسطورية لنيل مصر، واعتبرته آية من آيات الله فى خلقه. تستطيع أن تستدل على ذلك بسهولة من ذلك الوصف الذى يقدمه صاحب البداية والنهاية لنيل مصر، حيث تقول كلماته: «أما النيل وهو النهر الذى ليس فى أنهار الدنيا له نظير فى خفته ولطافته وبعد مسراه، يفد على ديار مصر وقد تحمل إليها من بلاد الحبشة زيادات أمطارها واجترف من ترابها وهى محتاجة إليهما معاً لأن مطرها قليل لا يكفى زروعها وأشجارها، وتربتها رمال لا تنبت شيئاً حتى يجىء النيل بزيادته وطينه فينبت فيه ما يحتاجون إليه وهى من أحق الأراضى بدخولها فى قوله تعالى: «أَفَلَا يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ».
الاحتفاء الواضح فى كتب التراث بـ«نيل مصر» أصله ما شهده النهر الخالد من أحداث جسام ارتبطت بالذاكرة الدينية للبشر، أبرزها شح الفيضان وما ارتبط به من أحداث فى عصر يوسف الصديق عليه السلام، بالإضافة إلى حضوره بشكل قوى فى قصة نبى الله موسى الذى احتضنه ماء النيل طفلاً، كما أنه كان موضوعاً فى العديد من الحوارات التى دارت بين موسى وفرعون مصر، وكان مسرحاً للصراع بين بنى إسرائيل وأقباط مصر. ومنذ دخول مصر تحت مظلة الإسلام والنيل حاضر بقوة فى حياة المسلمين ككل، بعد أن تحولت مصر إلى سلة غذاء للعالم الإسلامى، واعتمدت عليها نظم الخلافة التى تتالت على المسلمين منذ عمر بن الخطاب وعبر قرون طويلة تالية كمصدر للطعام، إلى الحد الذى يمكن معه القول بأن مصر تحولت بمرور الوقت إلى «مطعم للعالم الإسلامى» بفضل نهرها وخصبها.
عندما ينش النيل، فإن المصرى «ينش». وليس لمن يريد أن يعرف معنى المثل المصرى «قاعد ينش»، سوى أن يعود إلى كتاب موفق الدين عبداللطيف البغدادى «رحلة عبداللطيف البغدادى فى مصر»، ويحكى فيه عما شاهده فى «المحروسة» أواخر القرن السادس الهجرى، زمن الدولة الأيوبية. وقد تعاصرت الرحلة مع تراجع فيضان النيل، حيث «نش» -أى جف- النهر، على حد تعبير «البغدادى»، وساد الغلاء وتفشى الوباء بين المصريين، وسادت المجاعة البلاد والعباد، وقد بلغت حداً من الرعب يفوق أى خيال سينمائى، حكى «البغدادى» بعضاً من مشاهدها البشعة، وقال فى ذلك: «كان الرجل يدعو صديقه وأحب الناس إليه إلى منزله ليضيفه فيذبحه ويأكله، وصلى إمام مسجد الإسكندرية فى يوم على ما يزيد على 700 جنازة».
الوصف الموجع الذى قدمه «البغدادى» وهو يعرض مشاهداته للمجاعة التى ضربت مصر عام 595 من الهجرة، يمنحك مؤشراً إلى أن شح النيل يعد المصدر الأول للأزمات الاقتصادية فى مصر، خصوصاً أن الدولة حينذاك كانت تعتمد اقتصادياً بشكل كامل على الزراعة، لكن من المؤكد أن تخيل ما حدث، وأن يأكل جزء من المصريين لحوم جزء آخر منهم من أجل الحياة، أمر من الصعوبة بمكان.