بقلم : د. محمود خليل
«ما كُنتش عارفة إن الموضوع هيكبر كده». هكذا اختتمت والدة «طفل البلكونة» أقوالها فى محضر الشرطة عقب القبض عليها. أشخاص عاديون يجدون أنفسهم فجأة فى صدارة الاهتمام بسبب أحداث تقع داخل مصر المحروسة فى كل لحظة لكنها لا تسجل بكاميرا. والسؤال مَن الذى يتلقى الحدث الصغير ويضخم منه؟. إنها مواقع التواصل الاجتماعى ووسائل الإعلام وبعض الوزارات التى تهرول إلى الاهتمام لتثبت أنها تقوم بواجبها وسط الزفة التى تحيط بالحدث البسيط فتجعل من الحبة قبة.
هناك درس بليغ تعلمناه فى الإعلام يقول إن «كركتة الأحداث تتنافى مع الموضوعية». رسام الكاريكاتير يعتمد على تضخيم ملمح معين بارز فى الشخصية وهو يرسمها، أو بعبارة أخرى «يكركتها» حتى تبدو مضحكة. الكركتة ببساطة تعنى التضخيم. منذ عقود طويلة -وقبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعى- اعتمدت أجهزة الإعلام فى دول العالم المختلفة على التورط فى لعبة «الكركتة»، واعتبرتها أداة مساعدة فى تكبير الأحداث التافهة وخلق اهتمام عام بها عن طريق أساليب معينة فى المعالجة والطرح. والهدف من الكركتة ببساطة توظيف التافه من أجل ستر الأكثر خطورة وأهمية.
لو أنك راجعت الطريقة التى عولج بها موضوع إنفلونزا الطيور ثم إنفلونزا الخنازير بدءاً من النصف الثانى من القرن العشرين فسوف تتعرف على حدوتة «الكركتة» التى أحدثك عنها. فقد خصصت وسائل إعلام مختلفة مساحات كبيرة من بثها على مدار عدة أسابيع لمعالجة هذا الموضوع. ولعلك تذكر ماذا فعلت إنفلونزا الطيور بمصر عندما انشغل بها الإعلام المباركى، وكيف انتفضت مصر عن بكرة أبيها عندما راجت إشاعة تقول إن البعض يلقى بالفراخ النافقة فى مصارف النيل، وإن ثمة خطورة من أن تصل جرثومة المرض إلى مياه الشرب. لقد هرول كثيرون حينها واشتروا كميات كبيرة من المياه المعدنية، ورغم قيام بعض المسئولين بالشرب أمام الناس من مياه الحنفية، إلا أن المرتجفين من الإشاعة لم يقتنعوا إلا بعد أن شعروا بالعبء المالى الناتج عن الانتظام فى شراء المياه المعدنية.
عدد مَن ماتوا بأى من إنفلونزا الطيور أو الخنازير فى دول العالم المختلفة لا يعدو العشرات فى كل دولة. قِس هذا العدد إلى مجموع مَن يتوفاهم الله بسبب حوادث الطرق أو التلوث البيئى أو الإهمال الطبى وخلافه، ثم راجع إلى أى حد تهتم وسائل الإعلام بهذه الملفات، ووقتها سوف تدرك معنى «كركتة الأحداث». وسائل الإعلام فى كل الدنيا تخدم مصالح معينة، هذه المصالح اقتصادية بالأساس. مثلاً شركات الأدوية أحياناً ما تحقق أرباحاً مهولة نتيجة حالة الهلع التى تجتاح الناس جراء المعالجات الإعلامية للمسائل الصحية بأسلوب الكركتة.
داء «الكركتة» الذى أصبحت وسائل التواصل الاجتماعى تتشارك مع وسائل الإعلام فيه هو ببساطة السبب فى تضخيم موضوع «طفل البلكونة» وواقعة «طفل ربع ساعة يا حاجة». ومع التسليم بأن سلوك عاملة النظافة المتعبة مع طفلها لم يكن إنسانياً، إلا أن استغرابها له ما يبرره أيضاً. فهى لم تكن تتوقع وهى تحاول تنطيط ابنها للشقة أن مصر بأسرها سوف تنط فوق رأسها بهذه الصورة، ما دفعها إلى القول «ما كُنتش عارفة إن الموضوع هيكبر كده».. بطَّل تنطيط يا مواطن.
نقلا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع