بقلم: د. محمود خليل
بعض «علماء الدين» لا يختلفون كثيراً عن بعض مَن يطلق عليهم رجال الدولة، يدفسون أيديهم فى الجيب اليمين فيخرجون لك ما يؤكد أن أمراً ما حلال، ثم يدفسون أيديهم فى الجيب الشمال فيخرجون لك ما يثبت أن نفس الأمر حرام!. بعض رجال الدولة يفعلون ذلك أيضاً. حكى أحد الوزراء ذات مرة عن أول يوم له فى الوزارة، فقال إن أحد كبار الموظفين دخل عليه بمذكرة تتعلق بموضوع معين ليوقع عليها. سأل الوزير الموظف: هل هذا الموضوع قانونى أم ليس قانونياً؟. فابتسم الكبير وقال له: حسب ما تريد؟. فتعجب الوزير وقال: كيف؟!. فرد الراسخ فى علم الدولة: هناك بنود فى اللوائح والقوانين تؤكد شرعيته، عليك أن تستعين بها إذا أردت تمريره، وهناك بنود فى اللوائح والقوانين تقول العكس إن أردت رفضه.
منذ بضعة أيام خرج علينا الداعية السعودى «عادل الكلبانى»، إمام المسجد النبوى السابق، يقول إن النبى محمداً، صلى الله عليه وسلم، كان يستقبل مطربات فى بيته، وإن تعليم الموسيقى حلال بشرط عدم إجبار الطالب عليه. استند الداعية فى فتواه إلى عدد من الأحاديث النبوية التى تثبت صحتها. فى المقابل أثار حديث المطربات اللائى يغنين فى بيت النبى غضب آخرين فانطلقوا يحاججونه على مواقع التواصل الاجتماعى بأحاديث نقيضة تؤكد حرمة الغناء والمعازف وتتحدث عن مزمار الشيطان، وغير ذلك من كلام. ولأن الأحاديث المؤيدة للغناء والموسيقى وكذا المحرِّمة لها نسبها الرواة إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، فقد لجأ البعض إلى جدل موازٍ عن قوة السند ودرجة ضعف أو قوة الحديث، وهكذا.
قد لا أبالغ إذا قلت إن أى موضوع جدلى فى الحياة المعاصرة يمكن أن تجد فى التراث ما يؤيده إذا أردت تحليله، ويمكنك أيضاً أن تجد ما ينفيه ويعارضه إذا رغبت فى تحريمه، والسر فى ذلك أن رجال الدين فى العصور الأولى لتشكل دولة الخلافة (وتحديداً خلال العصر الأموى والعصر العباسى الأول) كانوا يعملون فى معية الخلفاء والأمراء، تماماً مثل موظفى الدولة المعاصرين الذين يعملون فى معية الوزراء والمسئولين. نظرة واحدة من عين الخليفة أو الأمير أو همسة يهمس بها كانت كفيلة بأن يفهم رجل الدين المطلوب فيسارع إلى تدبيج الفتوى بالشكل الذى يرضى السلطة، وهو لن يعدم حيلة فى ذلك، لأن عملية الوضع أو الدس على النبى كانت على أشدها فى بعض الأوقات. يكفى لكى نستدل على ذلك أن نشير إلى أن كتاب صحيح البخارى اشتمل على أربعة آلاف حديث، وبالأحاديث المكررة يتجاوز رقم السبعة آلاف بقليل، تمثل على وجه التقريب نسبة 10% من الأحاديث التى كانت رائجة فى عصره، وبعد سنين من تداول كتاب «البخارى» بين المسلمين يرى البعض أنه ما زال يحتاج إلى تنقية، بسبب اعتماده على التدقيق فى السند أكثر من التحليل العقلى للمتن أو المضمون الذى يشتمل عليه فى ضوء المرجعية القرآنية.
هذا التناقض أساسه رجال الدين الذين لبسوا عباءة الدولة، ورجال الدولة الذين خرجوا من سيالة الموروث الفكرى الذى لم يخضع للمراجعة والتدقيق فأدى إلى بناء مشهد «كل حاجة وعكسها».