بقلم: د. محمود خليل
المملكة العربية السعودية تدرس تعليق الحج إلى البيت الحرام خلال العام الحالى، بسبب فيروس كورونا. حتى اللحظة لم يصدر قرار رسمى بالتعليق، والأغلب أن القرار سيأتى كذلك. فكما تعلم أن موسم الحج يقتضى استعدادات كبيرة، وتحديد أعداد ومنح تأشيرات وإجراءات عديدة لم يعد هناك وقت للانتهاء منها قبل موسم الحج الذى يفترض أن يحل أوانه بعد بضعة أسابيع من اليوم. ليست تلك كما تعلم المرة الأولى التى تعلق فيها فريضة الحج، فقد سبق وحدث ذلك، وتشير بعض الدراسات إلى أن الحج توقف عدة سنوات خلال الفترات التى سيطر فيها القرامطة على مكة، وأشهرهم عبدالله بن محمد، ولقبه «صاحب الزنج» الذى تبعه عدد ضخم من ذوى البشرة السمراء فى ثورته. ويرى عدد من الباحثين -ومن بينهم الدكتور طه حسين- أن القرامطة كانت لديهم أفكار مبكرة عن العدل الاجتماعى، وقدموا نموذجاً للدولة الاشتراكية التى يتقاسم أصحابها الطعام والمال، كما يتقاسمون صناعة القرار.
ليس جديداً أن يمضى أحد الأعوام الهجرية دون أن يشهد البيت الحرام تلبية الحجيج لله تعالى. الفارق بين التجربة الحالية وما سبقها، أن الحج فيما سبق كان يعلق بسبب ظروف ناتجة عن صراعات البشر. وتاريخ الكعبة المشرفة فيه العديد من الصفحات التى تحكى جانباً من هذه الصراعات، وتقص صفحته الأولى حادثة حملة «أبرهة» على البيت الحرام ومحاولته هدم الكعبة المشرفة، وهى المحاولة التى باءت بالفشل، بعد تدخل السماء بإرسال الطير الأبابيل بما تحمله فى مناقيرها وبين أرجلها من حجارة قاتلة تفتك بمن تصيبه. وقد توقف «ابن كثير» أمام هذه الواقعة وهو يحكى استباحة القرامطة للبيت الحرام، وقدم إجابة عجيبة عن سؤال: لماذا حمى الله بيته من أبرهة ولم يتدخل لحمايته من القرامطة الثائرين؟. ذكر «ابن كثير» أن: «أصحاب الفيل عوقبوا إظهاراً لشرف البيت، ولما يراد به من التشريف العظيم بإرسال النبى الكريم من البلد الذى فيه البيت الحرام، فلما أرادوا إهانة هذه البقعة التى يراد تشريفها وإرسال الرسول منها أهلكهم سريعاً عاجلاً، ولم يكن شرائع مقررة تدل على فضله فلو دخلوه وأخربوه لأنكرت القلوب فضله، وأما هؤلاء القرامطة فإنما فعلوا ما فعلوا بعد تقرير الشرائع وتمهيد القواعد والعلم بالضرورة من دين الله بشرف مكة والكعبة». إجابة لا تخلو من مراوغة، وكأن الحماية الإلهية للبيت كانت مشروطة بوجود النبى صلى الله عليه وسلم، وتمهيداً لبعثته ورسالته، بعدها لم تعد هناك حاجة لدى السماء لحماية البيت، بعد أن عرف الناس شرفه وقدره!.
هذه المرة لم تتعرض الكعبة لهجوم فيلة أو ثورة زنج مسلمين ضد مظالم تكال ضدهم، لكن إرادة الله شاءت ابتلاء البشر جميعاً بفيروس كورونا اللعين، الذى أغلق كل مفتوح، وحبس الناس فى بيوتها وأقعدها عن التحرك والسفر. فى كل الأحوال إرادة الله نافذة فى الكون، والحج إذا تم تعليقه هذا العام، فسيمضى الأمر، مثلما مضت الأمور فى الأحداث الشبيهة. وعلينا ألا نقع فيما انزلق فيه «ابن كثير» من قبل، حينما حاول إيجاد تفسير مراوغ لتوقف الحج أيام القرامطة. حماية البشر فى كل الأحوال مقدمة على أى فريضة أو حلال أو حرام. فالله تعالى أحل أكل الميتة إذا كان الإنسان مهدداً بالموت من الجوع، ولا يجد طعاماً سواها، وفى حالة التهديد أو احتمال الخطر، من المفترض أن يتوقف كل شىء، بما فى ذلك الحج، لأن حماية النفس البشرية مقدمة على كل شىء. وإذا كنا ننظر إلى «تعليق الحج» هذا العام كحدث فارق سوف تسجله كتب التاريخ، فأظن أن تعليق ما عداه أهون!.