بقلم : محمود خليل
كان العام 1965 عاماً عجيباً فى حياة «الأداهم»، فقد تمددت الأزمات المعيشية فى حياتهم بصورة مؤلمة بسبب انغماس السلطة أكثر وأكثر فى حرب اليمن، وظهر فى الأفق نوع من التململ من الاستمرار فى هذه المعركة التى تستعصى على الحسم، وبدأت الحكاوى عن جبال اليمن وقبائلها التى تساعد المصريين صباحاً بمقابل معلوم ثم تقتلهم ليلاً لحساب من يدفع ثمنهم! فى هذا العام ظهر أيضاً تنظيم سيد قطب الذى تم القبض على أعضائه ومحاكمتهم، ليتم إعدام ثلاثة منهم، فى مقدمتهم سيد قطب.
شهد عام 1965 حدثاً آخر تفاعل معه الأداهم بصورة تستدعى التأمل.
فى يوم 23 أغسطس 1965 فوجئ مستمعو إذاعة الإسكندرية المحلية بخبر ينعى لهم الزعيم الكبير مصطفى باشا النحاس، وكان بالإسكندرية حينذاك. بدأت مشاعر عديدة تعتمل داخل نفوس المصريين عند سماع الخبر. يحكى نجيب محفوظ رد فعل أحد الوفديين القدامى من أبطال روايته البديعة «الباقى من الزمن ساعة» وهو يصف «النحاس» قائلاً: «مات آخر الزعماء.. سيُشيَّع غداً فى جنازة لا تليق بمقام راقصة درجة رابعة». رد الفعل يبدو طبيعياً إذا أخذنا فى الاعتبار أن «ناصر» اتخذ قراراً بحلِّ جميع الأحزاب، وهمَّش زعماءها، ومن بينهم النحاس باشا، لكن أحداث «الجنازة» سارت على عكس ما توقع الوفديون.
عندما وصل جثمان النحاس باشا إلى ميدان التحرير بالقاهرة، انشقت الأرض عن مئات الألوف من البشر الذين أحاطوا بنعشه وأخذوا يهتفون بحياة الزعيم الخالد، والوطنى الكبير، ورافع لواء الديمقراطية. أخذت الجموع تهتف: «اشك لسعد الظلم يا نحاس» و«لا زعيم بعدك يا نحاس». كان المشهد مفاجئاً، وصفه نجيب محفوظ فى روايته بقوله: «كانت الجنازة انفجاراً بركانياً غير مسبوق بإنذار.. كيف حصلت هذه الأسطورة؟!.. أى طوفان من جموع بلا نهاية، أى هتافات تتطاير بشواظ القلوب، أى دموع تترقرق فى الأعين، أى حزن يغشى الشيوخ والشباب، أجل والشباب أيضاً». ربما يكون نجيب محفوظ قد بالغ بعض الشىء وهو يصف مشهد الجنازة بسبب ميوله الوفدية، لكن حقائق الواقع والتاريخ تقول إن الجنازة كانت استثنائية ورسمت مشهداً غير متوقع فى ذلك الزمان، وعبّرت عن حنين أدهمى طاغٍ للزعيم المتزن الذى يجيد الحسابات السياسية ولا يندفع فى مغامرات غير محسوبة.
كان من الطبيعى أن يستثير المشهد زعيم الوقت «جمال عبدالناصر» وأن يستفز رجال الثورة، فكيف خرجت هذه الآلاف من البشر لتودع زعيماً ينتمى إلى العصر البائد، فى وقت لا تتلكأ فيه هذه الآلاف نفسها عن الهتاف للثورة وزعيمها؟ كان السؤال المطروح على لسان الجميع: «هو الوفد لسه عايش؟!». العجيب أنه بعد هذا الحدث بخمس سنوات توفى الزعيم جمال عبدالناصر، فشيّعه «الأداهم» فى جنازة مشهودة، وتدفقت الجموع من كل حدب وصوب تبكى الزعيم «حبيب الملايين»، كان أغلب المشاركين فى الجنازة من بسطاء هذا الشعب، من العمال والفلاحين الذين صنع لهم جمال عبدالناصر الكثير مما أخذه من جيوب وثروات الأغنياء. أغلب هؤلاء كانوا راضين بمعادلة الحكم الناصرى التى لا تتأخر عن إطعام الفم من أجل أن تستحى عين السياسة. لم يكن يهم هؤلاء ما تحدّث عنه المشاركون فى جنازة «النحاس» حول الحرية والديمقراطية والظلم والاستبداد السياسى وغير ذلك، بل كان يهمهم رغيف الخبز.