بقلم: د. محمود خليل
لم يكن القتل داخل الحرم، بل وفوق جبل عرفات، مقصوراً على تلك الحادثة الشهيرة التى قصف فيها «الحجاج» البيت الحرام بالمنجنيق، أو ذلك الصراع المرير الذى خاضه بنو أمية من أجل تأكيد سلطانهم، وتأديب الثائرين على حكمهم. فقد تواصلت المحن والفتن طيلة العصور التالية. وكان أشدها وطأة تلك الصراعات التى تزامنت مع حروب صلاح الدين ضد الصليبيين. ففى نفس العام الذى حاصر فيه صلاح الدين مدينة حلب، قامت فتنة «أمير مكة» بين أمير الحاج «طاش تكين» وبين الأمير «مكثر» أمير مكة، قام كثير من الحجيج فيها بنهب مكة وأخذوا من أموال التجار المقيمين بها الشىء الكثير، وأحرقوا دوراً كثيرة. ومن أعجب ما جرى فى هذه الفتنة -كما يحكى «ابن الأثير- أن إنساناً ضرب داراً بقارورة نفط فأحرقها، وكانت لأيتام، فأحرقت ما فيها، ثم أخذ قارورة أخرى ليضرب بها مكاناً آخر، فأتاه حجر فأصاب القارورة فكسرها، فاحترق هو بها، فبقى ثلاثة أيام يُعذب بالحريق ثم مات. ويعنى ذلك أن أول «زجاجة مولوتوف» ألقيت فى تاريخ المسلمين كانت بالقرب من جبل الرحمة بمكة المكرمة.
أما الفتنة الأكبر فجاءت يوم عرفة، من سنة (583 هـ)، حين قتل شمس الدين محمد بن عبدالملك المعروف بابن المقدم بـ«عرفات»، وهو أكبر الأمراء الصلاحية، وسبب قتله أنه لما فتح المسلمون بيت المقدس طلب إذناً من صلاح الدين ليحج ويحرم من القدس، ويجمع فى سنة بين الجهاد والحج وزيارة الخليل (عليه السلام) وما بالشام من مشاهد الأنبياء، وبين زيارة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فأذن له. وكان قد اجتمع تلك السنة من الحجاج بالشام الخلق العظيم من البلاد -كما يحكى «ابن الأثير»- ليجمعوا بين زيارة البيت المقدس ومكة، فجعل ابن المقدم أميراً عليهم فساروا حتى وصلوا إلى عرفات سالمين، ووقفوا فى تلك المشاعر، وأدوا الواجب والسنة. فلما كان عشية عرفة تجهز هو وأصحابه ليسيروا من عرفات، فأرسل إليه أمير الحاج العراقى، وهو مجبر الدين طاش تكين، ينهاه عن الإفاضة من عرفات قبله، فأرسل إليه: إنى ليس لى معك تعلق، أنت أمير الحاج العراقى، وأنا أمير الحاج الشامى، وكل منا يفعل ما يراه ويختاره، وسار ولم يقف، ولم يسمع قوله.
فلما رأى طاش تكين إصراره على مخالفته، ركب فى أصحابه وأجناده، وتبعه من غوغاء الحاج العراقى والعالم الكثير، والجمع الغفير، وقصدوا حاج الشام مهولين عليهم، فلما قربوا منهم خرج الأمر من الضبط، وعجزوا عن تلافيه، فهجم طماعة العراق على حاج الشام وفتكوا فيهم، وقتلوا جماعة ونهبت أموالهم وسبيت جماعة من نسائهم، إلا أنهن رددن عليهم، وجرح ابن المقدم عدة جراحات، وكان يكف أصحابه عن القتال، ولو أذن لهم لانتصف منهم وزاد، لكنه راقب الله تعالى، وحرمة المكان واليوم، فلما أثخن بالجراحات أخذه طاش تكين إلى خيمته، وأنزله عنده ليمرضه ويستدرك الفارط فى حقه، وساروا تلك الليلة من عرفات، فلما كان الغد مات بمنى، ودفن بمقبرة المعلى. هكذا تحولت الرحلة المقدسة إلى رحلة من رحلات الدم، واستحال الجبل المقدس إلى مسرح للقتل لمجرد الاختلاف على أولوية «الإفاضة» من عرفات.