بقلم: د. محمود خليل
خيوط فجر الخامس من يونيو 1967 تتسلل بضوئها بين ثنايا الظلام لتحيل خيوطه السوداء إلى بيضاء تسر الناظرين من أهالى المحروسة. على الجانب الآخر كان العدو يعد العدة ويضع اللمسات الأخيرة للهجوم على مصر، مرت ساعات الصباح ووصلنا إلى الضحى ومنه إلى الظهيرة. ساعتها كان كل شىء قد انتهى واحتُلت سيناء. فى التاسع من يونيو خرج جمال عبدالناصر بوجه غير الوجه الذى تعود أن يواجه به الناس. وبصوت كسير وكلمات حزينة واجه المصريين بالحقيقة المرة. لقد هُزمنا واحتُلت الأرض.
حزن عظيم اعتصر قلوب المصريين، بل قل لم يحزن المصريون فى تاريخهم المعاصر كما حزنوا وهم يسمعون كلام «عبدالناصر» الناطق بالهزيمة والانكسار. الإخوان وحدهم كانوا استثناءً داخل المشهد العام، ربما يكون بعضهم قد شارك غيره الأحزان على الهزيمة وضياع الأرض، لكن أغلبهم استسلم لإحساس عميق بالشماتة فى عبدالناصر ونظامه. إحساسهم كان كذلك وهم يسمعون أخبار الشهداء من الجنود والضباط فى حرب اليمن. فى ذلك التوقيت وتحديداً عام 1962 (وهو أيضاً عام اندلاع حرب اليمن) شدت أم كلثوم بأغنية «حسيبك للزمن» فحوّلها الإخوان إلى نكتة غيرت الأغنية إلى «حسيبك لليمن»، وأخذوا يتندرون بها على عبدالناصر، كما سجّل نجيب محفوظ فى روايته «الباقى من الزمن ساعة». وكلنا يعلم أن «محفوظ» كان مستمعاً جيداً لما يدور فى الشارع المصرى وينقله طازجاً إلى رواياته.
نفوس المصريين كانت تطحنها الهزيمة، عاشوا حالة اضطراب وارتباك وجلد للذات غير مسبوقة. ولم يكن لـ«الإخوان» أن تفوت هذه الفرصة فعندما تهتز نفس الإنسان ويرتبك عقله يسهل اختراقه. أخذت الجماعة تروج بأن البعد عن الله هو السر فى هزيمتنا فى الحرب. أحد الكتاب حينذاك أنشأ يقول: «الهزيمة وقعت بسبب بعدنا عن الله، وأننا كنا نظن أن النصر بأيدينا، ولم نفهم أن النصر من عند الله، فكانت النتيجة أن تكسرت أسلحتنا، ومات جنودنا فى صحراء لا ترحم، وتسممت معيشتنا فى كل الاتجاهات». بدأ الإخوان يرددون فيما بينهم أن «الله لا ينصر قاتل سيد قطب فى معركة يدخلها». لعلك تعلم أن الشيخ «الشعراوى» قال ذات يوم إنه صلى لله ركعتى شكر بعد هزيمة 67. الله تعالى يُحمد ويُشكر فى السراء والضراء، لكن الشيخ كثيراً ما كان يعبر عن عدم رضائه عن ارتماء مصر فى أحضان الاتحاد السوفيتى الذى لا يؤمن أهله بإله.
فى سبتمبر 1970 توفى الرئيس جمال عبدالناصر، وتدفقت جموع المصريين إلى الشوارع فى وداعه، وعاشت مصر فصلاً جديداً من فصول الحزن والانكسار. تولى الرئيس أنور السادات حكم مصر واختلفت وقتها ردود فعل الناس نحوه، ما بين مرحب به، وكاره له وشاعر بالفرق بينه وبين الرئيس السابق. وخرج «السادات» فى خطابه الأول الذى وجهه للشعب يشكر من قال له «نعم»، ومن قال له «لا»، فتناقلت ألسنة المصريين نكتة تقول: «عندما خطب السادات وجه الشكر لمن قال له نعم ومن قال لا.. ووجه شكراً خاصاً إلى (أمّه نعيمة) التى قالت له نعمين»!. و«أمه نعيمة.. نعمين» كانت أغنية شهيرة لليلى نظمى تذاع فى الراديو ليل نهار فى ذلك الوقت.