بقلم: د. محمود خليل
قلت لك إنه أمام شره التطلع المحبط بقلة الحيلة والعجز عن تحقيق الآمال الفردية فى الحصول على السلع الاستفزازية، بدءاً من إكسسوارات السيدات والسيارات وانتهاء بالساحر الصغير المسمى بالموبايل، سلك «الأداهم» مسالك مختلفة لحل مشاكلهم الاقتصادية، بعضها شريف، وبعضها لطيف، وبعضها مخيف. وعبَّرت المسالك الثلاث عن تأثُّر بالغ من جانب «الأداهم» بتوجهات السلطة «المباركية». بل قل إن الأجواء الاقتصادية والسياسية التى تشكلت خلال حقبة التسعينات ساعدت «مبارك» على صناعة أهل الأدهمية على عينه وربطهم به بحبل متين، وتحويلهم إلى «عيال للسلطة» يتشبثون بذيل «قيصر الاستقرار». دعونا نبدأ بأداهم المسلك الشريف.
المسلك الشريف الذى سلكه بعض «الأداهم» من أجل موازنة قدراتهم المالية بتطلعاتهم وتطلعات مَن حولهم تمثل فى البحث عن وظيفة مسائية إلى جوار الوظيفة الصباحية (العمل بروحين)، أو السفر إلى دول النفط والعمل فيها لمن استطاع إليه سبيلاً، أو دفع كل مَن هو قادر على العمل داخل الأسرة إلى التوظف أو احتراف أى حرفة، يستوى فى ذلك الزوج مع الزوجة مع الأبناء ليتكاتف الجميع فى تحقيق الدخل القادر على إشباع الحد الأدنى من التطلعات والأحلام الأدهمية العتيدة. والنتيجة أن الأسرة الأدهمية التى عاشت تاريخاً طويلاً من التماسك، وكان أكبر حلم لرأسها أن يبنى داراً أو بيتاً يزوج فيه أبناءه وينعم فيه بقربهم وقرب أحفاده، يستوى فى ذلك «أداهم» الريف مع «أداهم» المدن، أمست أقرب إلى التشرد فى أرض الله التى تفجرت بالبترول، أو إلى الشركات الاستثمارية والبنايات الجديدة التى تطاولت خلال فترة التسعينات وأوائل الألفية الجديدة ليعملوا موظفين أو حرفيين أو أفراد أمن أو خدماً وغير ذلك. أصبحت العديد من أفراد الأسر لا يلتقون معاً إلا فى الأعياد والإجازات المشتركة، وفيما عدا ذلك تجدهم سارحين فى بلاد الله لخلق الله.
وليس هناك خلاف أن الأكثر حظاً بين شرفاء «الأداهم» هو من كانت تساعده الظروف على الحصول على عقد عمل فى دول الخليج، ويكفى أن أشير فى هذا السياق إلى أن نسبة تقترب من 50% داخل بعض القطاعات -مثل قطاع التدريس الجامعى والمدرسى- نزحت للعمل فى دول الخليج، والأمر نفسه ينطبق على قطاعات العمال والفلاحين والحرفيين وغيرهم. وقد أحدث العمل فى الخليج خللاً داخل الأسرة الأدهمية أشارت إليه العديد من الدراسات التى بحث بعضها مسألة «نقل أخلاقيات وسلوكيات البداوة» إلى الواقع المصرى الذى عاش الحضارة بأخلاقياتها وسلوكياتها منذ آلاف السنين، فبعد سنين طويلة لم يشتهر فيها سوى قراء القرآن الكريم من المصريين، إذ بشرائط قراء الخليج تنتشر فى مصر بل ويتأثر بها القراء المصريون، ناهيك عن انتشار أنماط التدين الشكلانى والمظهرى السائدة فى هذه البلاد داخل الأدهمية بصورة تثير الاستغراب. أشارت دراسات أخرى إلى النتائج التى ترتبت على أنماط تربية الأبناء فى مصر فى ظل غياب الأب والأم للعمل فى الداخل أو الخارج والمخاطر التى تترتب على توافر المال بسخاء فى أيدى الأبناء، وما ترتب على ذلك من زيادة حالات المرض النفسى والإدمان وغير ذلك.
هذا القطاع من «الأداهم» سلك طريقاً شريفاً من أجل علاج الاختلال فى معادلة «التطلعات/ القدرات» لكنه لم يلتفت وهو يجرى جرى الوحوش فى صحراء الخليج وبرية المشروعات الاستثمارية والمدن المخملية داخل مصر أنه ضرب -فى بضع سنين- قيماً أصيلة ترسخت داخل الشخصية الأدهمية على مدار قرون من الزمن.