بقلم : محمود خليل
لعنة المعاناة المعيشية التى ضربت قطاعاً لا بأس به من الأداهم بسبب التورط فى حرب اليمن تزاوجت مع لعنة الاستهلاك، التى بدأت تضرب الطبقة الأدهمية المستفيدة من الحرب، مع لعنة الكذب المسبوك فى مصانع الإعلام، مع لعنة النفاق، فأصابت «الأداهم» بـ«زهمة». وكلمة «زهمة» من الكلمات الدارجة على لسان أداهم الستينات، ويعبّرون بها عن إحساس نفسى بتوقع خطر مقبل، ويظهر أثر الإحساس على الوجه عندما تعلوه علامات التوجّس والقلق. وتطفر هذه العلامات على وجوه «الأداهم» عند توالى مشاهد الدم والموت من حولهم. فـ«الأدهم» بطبيعته تركيبة محبة للحياة الهادئة المستقرة، الآمنة المطمئنة. لم يكن الإعلام فى ذلك الحين يتحدث عن الأرقام الحقيقية لشهدائنا فى حرب اليمن، لكن الأخبار كانت تتدفق على القرى والمدن بوفاة فلان ابن علان وعلان ابن ترتان. ومع تعدّد مشاهد الجنازات وسرادقات العزاء أصيبت النفس الأدهمية بقدر لا بأس به من الاضطراب. اشتُهرت فى الستينات أيضاً بعض الجرائم التى لقب أبطالها بـ«السفاحين»، مثل محمود أمين سليمان الذى تحولت جرائمه إلى رواية بديعة سطرها نجيب محفوظ تحت عنوان «اللص والكلاب». وكانت هذه الجرائم تثير رعب وفزع الشارع حتى تتمكن الأجهزة الأمنية من القضاء عليها. وقد استثمر بعض المنتجين السينمائيين هذه الحالة، وأنتجوا أفلاماً متنوعة تعالج موضوع السفاحين، مثل فيلم «سفاح النساء» لفؤاد المهندس، وفيلم «ابن الشيطان» وغيرهما. وهى أفلام كانت تعتمد على تيمة ثابتة تتعلق بتحليل دور العُقد النفسية فى دفع صاحبها إلى الجريمة.
توازى مع مشاهد جنازات الشهداء وضحايا السفاحين تجدّد الصراع بين جماعة الإخوان والسلطة. فقد أفرج عن سيد قطب عام 1965 بعد تجربة مريرة داخل السجن، عزّز من مرارتها السن واعتلال الصحة والإحساس بالإهانة. وفى عام 1957 وقعت مذبحة السجن الحربى التى راح ضحيتها 23 من أعضاء جماعة الإخوان وجرح ضعف هذا العدد. وسيق الجرحى إلى مستشفى ليمان طرة، حيث كان يرقد سيد قطب مريضاً، وعلم بتفاصيل ما حدث فأوجد ذلك فى نفسه غصة عميقة، وأصبح موقفه من جمال عبدالناصر ورفاقه محسوماً. البعض يعزى التحول الذى وقع فى أسلوب تفكير سيد قطب واتجاهه إلى تجهيل النظام الذى يحكم والشعب الذى يرضى بحكمه إلى تجربته فى السجن. وليس هناك خلاف على عمق تأثير هذه التجربة على سيد قطب، لكن هذه الواقعة لا تصلح وحدها أساساً لتفسير التحول الخطير الذى أصاب طريقته فى التفكير.
التحول فى تفكير سيد قطب نحو «الأدهمية المصرية» كان أساسه الطموح الذى يحركه خيال الأديب. ذكر سيد قطب فى اعترافاته أن الإخوان أولوا إليه بعد انضمامه إلى جماعتهم الأمور الثقافية ورئاسة تحرير جريدتهم «الإخوان المسلمون»، وأبعدوه عن الأمور الحركية. والواضح أن هذا الأمر لم يكن يرضى غرور سيد قطب الذى رأى فى نفسه أستاذاً لعبدالناصر الذى تحول إلى زعيم شعبى بعد معركة 1956، وأنه لا يقل قدرة أو مهارة فى التخطيط عن الضباط الذين استولوا على السلطة. داخل السجن أنتج سيد قطب «النظرية الحركية» فى تفسير القرآن الكريم وفهم السيرة النبوية واستيعاب تجربة بناء الدولة الإسلامية فى عهد النبى، صلى الله عليه وسلم، وجعل من هذا المنهج أداة لبناء تنظيم جديد «قطبى النزعة والمنهاج»، ويعتمد لغة الدم كلغة رسمية. وكان أن تعاملت السلطة مع أفكاره باللغة ذاتها، وانتهى المشهد بتنفيذ حكم الإعدام فى «قطب» عام 1966.