تصور المصريين لآدم عليه السلام ولحياته فى الجنة، ثم رحلة شقائه على الأرض لا يبرح عتبة الثقافة المحلية، وما تقدمه من تصورات للحياة والأحياء، وكذا للعالم الآخر، ونعيم جنانه وعذابات جحيمه.
ليس المصريون وحدهم كذلك، بل كل شعوب الأرض. ولا تجد لوحة أشد اكتمالاً للتعبير عن تصوّر المصريين لـ«آدم» من اللوحة التى قدمها نجيب محفوظ فى رواية «أولاد حارتنا».
فالحكاية الأولى «أدهم» التى تحمل رمزية إنسانية عالية لآدم الأول وكل الأوادم الذين تدفقوا من صلبه بعد ذلك تقص عليك حكاية «أدهم المصرى» بكل تفاصيلها، فتجد فيها النزعة القدرية والتسليم للإرادة العليا التى كانت سبباً فى وجوده فى الحياة، وميلاً عميقاً إلى الحياة الرخوة غير المرهقة المحتشدة بالملذات الروحية والمادية، والترخص فى تسليم عقله إلى أقرب عابر سبيل لقبول ما قد تأباه نفسه، والصبر على البلاء وعند مواجهة مشكلات الحياة.
ثمة أمران يستحقان التوقف أمامهما، ونحن نستعرض لوحة السمات التى رسمها نجيب محفوظ لـ«آدم المصرى» وعبر عنه باسم «أدهم» فى روايته الشهيرة.
الأمر الأول يتعلق برائحة الحياة فى مصر أواخر القرن الـ18 وأوائل القرن الـ19 التى تفوح منها. فصورة «أدهم» فى «أولاد حارتنا» تتفق فى الكثير من سماتها مع الصورة التى رسمها كُتاب الحملة الفرنسية (1798 -1801) للمواطن المصرى فى مؤلفهم الشهير «وصف مصر».
الأمر الثانى أن بعضاً من السمات التى توافق فيها نجيب محفوظ مع كتاب «وصف مصر» وهو يرسم صورة «أدهم» ما زالت راسخة فى الشخصية المصرية، وبعضها الآخر تراجع وبقى فى حالة كمون، كما أن التجارب المتنوعة التى خاضها «أدهم» -وهو الاسم الرمزى للمواطن المصرى- أظهرت سمات أخرى فى شخصيته لم يتنبه لها نجيب محفوظ وكتاب «وصف مصر»، لكن يبقى أن السمات الأم التى تميز «أدهم» فى «أولاد حارتنا»، و«وصف مصر» تشكل إلى حد كبير الهيكل الأساسى للشخصية المصرية.
وفى كل الأحوال تمثل هذه السمات منطلقاً لتحديد وتوقع سلوك المواطن المصرى فى المواقف المختلفة، وردود أفعاله خلال الفترات التى شهدت محاولات لتغيير معالم شخصيته.
وثمة تجربة مهمة وبارزة فى هذا السياق (تجربة النهضة فى عصر محمد على) استنفر «أدهم المصرى» فيها كل ما يملكه من آليات الصمود والمواجهة للحيلولة دون إعادة صياغة الظروف المحيطة به وتغيير سلوكه وطرق أدائه ليخرج من قوقعة الماضى الفوضوى والخيالى الذى كان يميز حياته خلال العصرين العثمانى والمملوكى ليعيش حياة واقعية يتخلى فيها تدريجياً عن السمات التى أقعدت شخصيته عن النهوض، وجعلتها أشد استسلاماً لأحلام وأوهام عديدة عششت فى رأسه.
ولعل أخطرها حلم «الحديقة والناى» الذى ظل يطارد أدهم -كما يصف نجيب محفوظ- بعد خروجه من البيت الكبير ونزوله للعيش فى الخلاء، وأقعده فى العديد من المواقف عن التعاطى العقلانى مع ظروف الحياة وتحولاتها.
الزمن فى رواية أولاد حارتنا «عائم»، لكن كما ذكرت لك تستطيع أن تشتم فى أحداثها ومعالم شخوصها رائحة الحياة فى مصر أواخر العصر المملوكى، وهى خلافاً للدراسة (محددة الزمن) التى أعدها «دى شابرول» -أحد علماء الحملة الفرنسية- حول الشخصية المصرية وعادات وتقاليد المصريين.
وظنى أننا لو شاكلنا بين النصين وقرأنا هذا فى ضوء ذاك فبإمكاننا أن نخرج بمجموعة من السمات التى حكمت تصور المصريين لآدم الأول والذى ترجمه نجيب محفوظ فى شخصية «أدهم»، وسنضع أيدينا على الأغلال التى تقيد هذه الشخصية وتعرقلها عن التطور، وأولها «القدرية فى التفكير».
وعندما نحلل هذه المنظومة من السمات فى سياق تجربة نهضوية، مثل تجربة محمد على، فسوف يتجلى لنا تأثيرها على الحياة فى مصر بدرجة أعمق.