بقلم: د. محمود خليل
تؤشر حالة الجدل التى تتفاعل حالياً حول مسلسل «ممالك النار» إلى أن الأعمال التاريخية لم تزل قادرة على استقطاب المشاهدين المصرى والعربى. يروى العمل نضال آخر سلطان من سلاطين الدولة الجركسية التى حكمت مصر عشرات السنين «طومان باى» ضد الغزو العثمانى للبلاد (1517). لست أريد التوقف أمام وجهات النظر المتعارضة حول المضمون الذى حمله المسلسل، لأن طبائع الأمور فى وجهات النظر هى الاختلاف، المهم أن تكون مستندة إلى أدلة تاريخية ثابتة، وليست مجرد حكى مرسل يستهدف المكايدة وفقط. ما أريد التوقف أمامه مسألة أن الدراما التاريخية ما زالت تتمتع بجماهيرية واضحة إذا أُحسن صناعتها وتم توفير التمويل الكافى لها نظراً لضخامة تكاليف إنتاجها.
كنت أتمنى أن تكون جهة إنتاج هذا المسلسل مصرية، ليس تعصباً لبلادى، ولكن لأسباب أخرى؛ أولها أننا أَولى بتقديم صفحات تاريخنا إلى الأجيال الجديدة من غيرنا، والثانى أن الدراما التاريخية كانت فى الأصل صناعة تليفزيونية مصرية خالصة، حتى بدأت دول أخرى مزاحمتنا فى هذا المجال، وتلا ذلك خروج مصر من هذا الملعب بصورة أو بأخرى. مؤلف مسلسل «ممالك النار» مصرى هو الأستاذ محمد سليمان عبدالملك، والبطولة فيه للمبدع المصرى «خالد النبوى»، وهو ما يعنى مصرية المسلسل، لكن المخرج بريطانى، وكذا المنتج شركة إماراتية. ولو أننا استرجعنا بعض الأعمال من ذاكرة التليفزيون المصرى فسوف نجد أن هذه ليست المرة الأولى التى يتم فيها معالجة الحقبة الأخيرة للدولة الجركسية عبر عمل تليفزيونى. فقد سبق وعالج هذا الموضوع مسلسل «على باب زويلة» عن قصة شهيرة للروائى الراحل «محمد سعيد العريان» (إنتاج عام 1976)، كما تطرق إليه أيضاً مسلسل «الزينى بركات» (إنتاج 1995)، الذى كتب السيناريو والحوار له المخضرم محمد السيد عيد عن رواية للمبدع الراحل «جمال الغيطانى». هذه مجرد أمثلة على مسلسلات تليفزيونية اشتبكت مع الفترة التاريخية والشخوص التى يدور حولها مسلسل «ممالك النار».
الدراما التاريخية كانت محل اهتمام من جانب التليفزيون المصرى، وما أكثر ما أنتج أعمالاً عالجت فترات مختلفة من التاريخ المصرى والعربى والإسلامى، لكن قاطرة الإنتاج تعطلت -ويا للعجب- مع الزيادة اللافتة فى عدد القنوات التليفزيونية مع ظهور الأقمار الصناعية بداية الألفية الجديدة. كان من المتوقع أن ينتعش الإنتاج المصرى التاريخى فى مثل هذه الأجواء، لكنه على العكس تراجع وانحسر، فى وقت بدأت دول أخرى تستغل فراغ الساحة من المنتج الدرامى المصرى «التاريخى» وبدأت تعمل فى هذه المساحة، فأنتجت مسلسلات تاريخية حققت جماهيرية لا بأس بها على المستويين المحلى والإقليمى. مسألة تثير العجب فعلاً أن مصر -الدولة الأقدم على مستوى التاريخ- تخرج من سباق الدراما التاريخية!، لنجد شركات إنتاج غير مصرية تستثمر تاريخها الخصب والثرى. ليس هناك مانع فى ذلك بالطبع، لكن يبقى أن مصر أولى بتاريخها وأجدر بأن تنتج أعمالاً تعبر عن المراحل المختلفة لهذا التاريخ. وإذا كنا نتحدث عن الدراما كجزء من القوة الناعمة للدولة المصرية فلا بأس من أن تتأسس شركة إنتاج تليفزيونى تابعة لأى من الجهات التى تملك القدرة على إنتاج دراما تاريخية حقيقية تعيد للمنتج التليفزيونى المصرى جانباً من تألقه الذى كان!.