بقلم: د. محمود خليل
منذ عدة سنوات تحيا الصحف المطبوعة من غير سوق حقيقية تستوعب ما تطبعه من نسخ. بعض الأسر التى لم تزل تشترى الصحف تستخدمها لأهداف أخرى غير القراءة، مثل تنظيف الزجاج، وفرشها على موائد الطعام وجمع الفضلات. ولست بحاجة إلى أن أكرر لك ما تعلمه بالضرورة عن أن بعض الصحف اليومية فى مصر لا يزيد توزيعها على 2000 نسخة، وأن عدد الصحف (جرائد ومجلات) ينقرض ويتراجع بصورة عجيبة فى مجتمع يبلغ تعداده أكثر من 100 مليون «بنى آدم».
عندما كان عدد المصريين أقل مما هم عليه الآن لم يكن وضع الصحافة على هذا النحو. يشير الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور فى كتابه «قصة الضمير المصرى الحديث» إلى أن عدد الصحف اليومية فى مصر وصل إلى 10 صحف أواخر القرن التاسع عشر، حين كان عدد المصريين لا يزيد على 15 مليون نسمة، وكانت بعض الصحف مثل «الأهرام» و«الأستاذ» توزع ما يقرب من ثلاثة آلاف نسخة أى أكثر مما توزع بعض الصحف اليومية حالياً! وعندما قامت ثورة يوليو 1952 كان عدد الصحف اليومية فى مصر يزيد على 20 جريدة، غير المجلات والصحف الأسبوعية. ولا خلاف على أن عدد الصحف المطبوعة أخذ فى الانحسار خلال فترة الستينات والسبعينات، لكن حدثت انتعاشة بسوق المطبوع بعد ذلك خلال فترة الثمانينات وما تلاها نتج عنها زيادة أعداد الصحف القومية والخاصة والحزبية، بالإضافة إلى العديد من المجلات المتخصصة التى صدرت عن المؤسسات الصحفية القومية.
ومع استثناءات قليلة كان استمرار الصحافة خلال حقبة الستينات وما تلاها انعكاساً لإرادة سياسية، وليس لإرادة مهنية تعكس وعياً بالدور الذى تقوم به الصحافة فى حياة القارئ وإصراراً من جانب الصحفيين على أدائه. فمنذ صدور قانون تنظيم الصحافة 1960 أصبح الدور الأهم الذى تقوم به الصحف هو التعبئة والحشد وراء توجهات السلطة. وقد ظل هذا الدور قائماً خلال فترة السبعينات، لكن الرئيس السادات (رحمه الله) أضاف دوراً جديداً للصحف بعد دخول مصر فى التجربة الحزبية الثالثة، وهو دور المعارضة. فعندما سمح الرئيس السادات بعودة الأحزاب السياسية عام 1977 أعطى الصحف الناطقة باسمها هامش حرية منحها فرصاً عديدة لإسماع القارئ أفكاراً وآراء وأصواتاً لا يسمعها فى الإعلام الرسمى. ويبدو أنه كان يؤمن بأن الأصوات الناقدة التى تعلو فى الصحف المعارضة محدودة التأثير والأثر، فكم عدد النسخ التى توزعها هذه الصحف حتى يكون لصوتها صدى فى الشارع؟
هذه المعادلة سار عليها «مبارك» أيضاً، ومع ظهور البث الفضائى والخروج من دائرة التليفزيون «أبو قناتين» أفسح المجال لبعض البرامج التى تقدم خطاباً معارضاً، وتم ذلك بتخطيط وتدبير من مهندس الإعلام المصرى حينذاك صفوت الشريف الذى أعطى الفرصة لبعض الأصوات المعارضة لتعبر عن نفسها فى برامج تليفزيونية تطبيقاً لمبدأ يمكن تلخيصه فى عبارة: «ليه تنقد بره ما دام ممكن تنقد هنا». فبدلاً من أن تذهب هذه الأصوات إلى قنوات معادية لمصر تتعيش على الأصوات المعارضة أفسح لها «الشريف» مساحة للتعبير داخل القنوات المصرية.
لكن تضييق دائرة النقد والمعارضة لم يمنع الإعلام الذى يلعب على يسار السلطة من تحريك الأوضاع، وقلقلة الثوابت، وقد نسبت الكثير من التحليلات إلى الإعلام دوراً مهماً فى تحريك المصريين فى 25 يناير 2011، ثم فى 30 يونيو 2013، ولكن يبدو أنه مع نمو الإعلام الجديد وتآكل أدوار الوسائل التقليدية القديمة لم تعد السلطة بحاجة إلى الإعلام ككل سواء على مستوى التأييد أو المعارضة.