بقلم: د. محمود خليل
لقد أصبحنا مجتمعاً عجيباً.. لا يعرف إلا الجدل العقيم.. هل ذلك بفعل مواقع التواصل الاجتماعى؟. وارد بالطبع أن تكون هذه المواقع عاملاً مهماً فى سيطرة خطاب حدى يعتمد على فكرة الاستقطاب، ويرفض أية وجهة نظر مخالفة، وينفى الآخر من أرض العالم الافتراضى، ويتجه إلى دعوَشة «من الداعشية» أى موضوع، وتحويل الحبة إلى «قبة»، لتصعيد موضوعات تافهة وتهميش موضوعات أخرى عظيمة الأهمية وشديدة التأثير على حاضرنا ومستقبلنا.
على هامش واقعة التحرش، المتهم فيها طالب بإحدى الجامعات الأجنبية بمصر، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعى، بالقيل والقال، واشتد التفاعل مع بعض الحالات التى زعمت صاحباتها أنهن من ضحايا هذا الذئب. عند هذا الحد يمكن قبول الأمر، فلا بأس أن يهتم الناس بموضوع التحرش ويحاربوه، لكن مستخدمى الإنترنت وقد اعتادوا على التعامل الاستهلاكى مع القضايا والأحداث، لم يكتفوا، ولحسن الحظ فقد وجدوا مَن يلقى إليهم بسبوبة للكلام والحديث عبر رأى شاذ، يؤدى إلى ظهور «النشطاء الجبهويين» الذين ينتمى كل منهم إلى جبهة أو فريق أو معسكر معين ليشعلوا مواقع التواصل بالثرثرة.
فجأة خرج «نشطاء جبهويون» يكيلون الاتهامات للمؤسسات الدينية، ويرددون أن أحاديث المشايخ عن الحجاب وتسفيه التبرج، يغرى بعض الشباب بالتحرش بالمتبرجات، ولا ينسون فى «حمقة» الكلام أن يتهموا هذه المؤسسات فى ملفات أخرى عديدة. المضحك فى الأمر أن كثيراً من هؤلاء من المؤمنين بضرورة الفصل بين الدين والدولة، وتحييد أدوار المؤسسات الدينية، وهم يتناقضون مع أنفسهم حين «يفصّصون» دورها فى هذه القضية أو تلك.
وحتى يكتمل المشهد ويشتعل النقاش أكثر ويغرق رواد المواقع فى الجدل العقيم، لا بد أن يظهر مفتول العضلات حليق الرأس الممثل الشبابى للمؤسسات الدينية ليدلى بدلوه فى البئر، يخرج «الجبهوى النقيض» فيقول إن أصل العلة فى التحرش يرتبط بلبس البنات الذى يشف ويرف ويصف، وكأن المحجبات لا يتعرضن للتحرش!.
كارثة هذا النوع من الجدل أنه لا يعالج مشكلات، لأنه ببساطة يعتمد على التفكير الدائرى الذى يبدأ من نقطة ثم يعود إليها هى نفسها. وأراهن أنك لو راجعت التدوينات التى كُتبت حول أى واقعة تحرش سابقة، فستجد الكلام نفسه، والجدال ذاته، ونفس الكائنات الجبهوية الحدية.
الهدف الأول والأخير للجدل الساذج الذى يشتعل من حين إلى آخر على مواقع التواصل هو استهلاك المشكلات وليس حلها، أو بعبارة أخرى التحرش بها. فالتحرش يعكس نظرة متخلفة للمرأة تعتبرها سلعة. واستهلاك السلعة يتطلب وجود «زباين» يرفعون أعداد «الشير واللايك والكومنت»، ولكى يعمل العداد بالسرعة المطلوبة ويخلق التريند -ما يدفع وسائل الإعلام إلى التنويه به ومعالجة قضيته- لا بد من استخدام خطاب زاعق مثير، وليس يهم أن يكون متناقضاً مع العقل أو معدوم المنطق، فالمهم أن يشجع على الاستقطاب ويغازل روح الفريق «التويترى» أو «الفيس بوكى». فذلك هو المهم. كرر ثم كرر.. سطّح ثم سطّح.. استخدم لغة زاعقة ثم صارخة تنال المراد من الرواد، فيمطرونك بالشير واللايك والكومنتات وخلافه، حتى لو اجتروا نفس الكلام وأعادوا ما قالوه بالأمس اليوم أو غداً أو كرروا بعضهم البعض.. حاجة مزعجة بصراحة.