بقلم: د. محمود خليل
ما فهمته من كلام الروائى أحمد مراد عن الراحل العظيم نجيب محفوظ أنه أراد القول إن أدب صاحب نوبل «ابن زمنه» وابن الإيقاع الذى حكم زمنه، وهو إيقاع امتاز بالبطء، وأن العصر الجديد الذى نحيا فى ظلاله يتميز بإيقاعه السريع. هذا الكلام صحيح. فكل زمن وله إيقاعه.. كما له أبطاله وظروفه وطبائعه. وليس هناك خلاف على أن التحول فى أساليب تلقى القراء للنصوص الأدبية يختلف عند الانتقال من زمن إلى زمن، لكن فى تقديرى أن ثمة أموراً فاتت على «مراد»، أو ربما لم تتحقق له الفرصة ليدلى بدلوه فيها، وهو يتحدث عن نجيب محفوظ.
استشهد «مراد» ببطء الأحداث فى رواية «السراب»، وهى رواية لها طبيعتها، فهى تعالج أمر شخصية شديدة التركيب والتعقيد، وكلامه عن بطء المحب فى المبادرة إلى مصارحة من يحبها بمشاعره تجد تبريرها فى طبيعتها الخاصة، وتجد تفسيرها أيضاً فى إيقاع الزمان الذى كُتبت فيه الرواية، لكن لو تجاوزنا «السراب» إلى مجموعة الروايات الأم لنجيب محفوظ وعلى رأسها أولاد حارتنا وملحمة الحرافيش، فأقدر أنها ترقى إلى مصاف الأعمال الإنسانية الكبرى التى يمكن أن تجد لها قراءً فى كافة العصور، فقد عرف «محفوظ» كيف يختار أفكارها ويرسم شخوصها وينسج أحداثها بصورة أنزلت الأفكار الكبرى من سماء التجريد الدينى والسياسى والاجتماعى إلى الحياة المعاشة. إنها أفكار وشخصيات وصياغات قادرة على تجاوز الأزمنة بل والأمكنة أيضاً.
ثمة جانب آخر فى أدب نجيب محفوظ يجب ألا نعبر عليه عبور الكرام، وهو أن الأوراق الروائية التى أنتجها احتضنت تأريخاً أصيلاً للحياة الاجتماعية فى مصر خلال القرن العشرين، وقد ظل «محفوظ» شغوفاً بنقل أحداث الحياة المصرية بكاميرا مصور محترف وقلم يجيد رسم الصور وقادر على بث الحياة فى الكلمات، حتى توقف عن الكتابة أواخر عمره. تجد هذا التأريخ حاضراً فى الثلاثية، وفى الباقى من الزمن ساعة، وحتى فى «يوم قتل الزعيم». كان نجيب محفوظ مراقباً دقيقاً للواقع وناقلاً أميناً لأحداثه وتفاعلات البشر معها. وتتحدد قيمة هذا المنحى فى كتاباته فى الاهتمام بـ«التاريخ الشعبى» للمصريين وكيف تأثروا بالأحداث وبالشخوص التى ظهرت على مسرح الحياة فى مصر طيلة قرن كامل من الزمان. وهو جانب أهمله العديد من المؤرخين.
وقد يكون من المهم أيضاً أن نفكر قليلاً فى الطبيعة الاستهلاكية لألوان الكتابة الأدبية التى تشتهر فى عصر معين، ثم تختفى فى عصور أخرى بفعل تغير الظروف، ونحدد بشكل دقيق الفارق بين ما تحمله من قيمة استهلاكية، وما تختزنه الكتابة الأدبية القادرة على عبور الأزمنة والأمكنة من قيمة إنسانية، ومن قدرة على التأثير فى أجيال مختلفة. لست أشك فى أن الكاتب أحمد مراد يعلم قيمة نجيب محفوظ جيداً، وربما لم يتح له الظرف ولا الفرصة لأن يعبر عما يعلمه من قيمة لأديب نوبل، لكن يبقى أن المعركة التى نشبت على هامش الرأى الذى طرحه تعكس حالة الاستقطاب التى أصبحت تحكم المجال العام فى مصر.
وقد يهمك أيضًا:
عاصفة إرهابية فى أفق الأدهمية
رحلة الوجع الأدهمى