بقلم : د. محمود خليل
تختزن مصر ما يقرب من ثلثى آثار العالم، وهو أمر التفت إليه المسلمون الأوائل، واستدلوا عليه من المشاهد الظاهرة أمامهم التى كانت مبعث انبهار لهم، بالإضافة إلى ما حكاه القرآن عن كنوز هذه الأمة. يقول «المقريزى» فى «خططه»: وبمصر كنوز يوسف، عليه السلام، وكنوز الملوك من قبله، والملوك من بعده، لأنه كان يكنز ما يفضل عن النفقات والمؤن لنوائب الدهر، وهو قول اللّه عز وجل: «فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ».
والمتتبع للفترة الزمنية التى أعقبت فتح عمرو بن العاص لمصر يلاحظ أن الفاتح الإسلامى لم يهن الآثار المصرية أو يعتدى عليها، والأبرز أنه لم يطمع فيها، ولا يستطيع المحلل أن يحسم السبب فى ذلك، وهل يتعلق بأن كنوز مصر الظاهرة وخيرها الوفير أغنت الفاتحين الأوائل عن البحث عن كنوزها الدفينة، أم أن المسألة مردها احترام تراث الأمم السابقة؟. وربما مال البعض إلى ترجيح السبب الأول الذى يذهب إلى أن الخير الظاهر أغنى جند عمرو بن العاص عن البحث عن الدفائن، مستشهدين فى هذا المقام بموقف سعد بن أبى وقاص بعد فتح بلاد فارس، حيث نظر إلى آثار كسرى كغنيمة حرب.
يحكى صاحب «البداية والنهاية»: «حين دخل سعد إيوان كسرى، تلا قوله تعالى: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ، كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ)، ثم أرسل السرايا فى أثر كسرى يزدجرد، فلحق بهم طائفة، فقتلوهم وشردوهم واستلبوا منهم أموالاً عظيمة. وأكثر ما استرجعوا من ملابس كسرى وتاجه وحليه، وشرع سعد فى تحصيل ما هنالك من الأموال والحواصل والتحف مما لا يقوم ولا يحد ولا يوصف كثرة وعظمة، وكان هناك تماثيل من جص، فنظر سعد إلى أحدها، وإذا هو يشير بإصبعه إلى مكان، فقال سعد: إن هذا لم يوضع هكذا سدى، فأخذوا ما يسامت إصبعه، فوجدوا قبالتها كنزاً عظيماً من كنوز الأكاسرة الأوائل، فأخرجوا منه أموالاً عظيمة جزيلة وحواصل باهرة وتحفاً فاخرة، واستحوذ المسلمون على ما هنالك من جواهر نفيسة التى تحير الأبصار، وكان فى جملة ذلك تاج كسرى وقباؤه وبساط إيوانه، وكان مربعاً، ستون ذراعاً فى مثلها من كل جانب، والبساط مثله سواء، وهو منسوج بالذهب واللآلئ والجواهر الثمينة، وفيه مصور جميع ممالك كسرى بأنهارها وقلاعها وأقاليمها وكنوزها».
ويستطرد «ابن كثير» قائلاً: «فتحصل الفىء على أمر عظيم من الأموال، وشرع سعد فخمّسه، وأمر سلمان الفارسى فقسّم الأربعة أخماس بين الغانمين، واستوهب سعد أربعة أخماس البساط ولبس كسرى من المسلمين ليبعثه إلى عمر والمسلمين بالمدينة لينظروا إليه ويتعجبوا منه، فطيبوا له ذلك، وأذنوا فيه فبعثه سعد إلى عمر مع الخمس. ولما نظر عمر إلى ذلك قال: إن قوماً أدوا هذا لأمناء، فقال له على بن أبى طالب إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعت، ثم قسّم عمر ذلك فى المسلمين، فأصاب علياً قطعة من البساط فباعها بعشرين ألفاً، وقد ذكر سيف بن عمر أن عمر بن الخطاب ألبس ثياب كسرى لخشبة ونصبها أمامه ليرى الناس ما فى هذه الزينة من العجب وما عليها من زهرة الحياة الدنيا الفانية، ثم ألبسها لسراقة بن مالك».
نقلا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع