بقلم: د. محمود خليل
من ضمن القرارات المدهشة التى اتخذها «السادات» أواخر عام 1977 قراره بزيارة إسرائيل. لا نريد أن نتوقف كثيراً أمام التفاصيل التى تتعلق بالزيارة، فأغلبها معلوم، ما نريد تأمله هو رد الفعل الأدهمى على مشهد «السادات»، وهو يعلن فى مجلس الشعب استعداده للذهاب لإسرائيل وما أعقبه من مشاهد الزيارة. أصيب «الأداهم» بدهشة كبيرة وهم يسمعون ويشاهدون هذه الأحداث. فى البداية راجت شائعات كثيرة تتحدث عن أن «السادات» يجهز لخدعة خطيرة سيؤدب بها إسرائيل، وأن كلامه يجب ألا يؤخذ على محمل الجد، وراج أيضاً أن الرجل يناور كعادته ويريد أن يفضح إسرائيل دولياً كدولة عدوانية لا تريد السلام. كلام كثير وشائعات أكثر ترددت فى الشارع الأدهمى، لكن كل شىء تبدد عندما رأى الأداهم بأعينهم طائرة الرئيس وهى تهبط فى مطار «بن جوريون» و«السادات» يصافح قادة إسرائيل الذين لم يكن أغلب المصريين يعرفون أشكالهم، مثل جولدا مائير وموشى ديان ومناحم بيجن وغيرهم. كان المشهد من أكثر المشاهد التى عاشها «أداهم السبعينات» إثارة.
بعد أن أصبح الخيال حقيقة، وشاهد المصريون «السادات» يخطب فى الكنيست الإسرائيلى، انقسم الشارع الأدهمى كالعادة ما بين مؤيد ومعارض للخطوة. كانت أجيال الكبار ميّالة للتأييد. فالأم التى استشهد ابنها أو أصيب فى الحرب والأب الذى أصبح يعانى معيشياً بسبب تسخير القدرات الاقتصادية للدولة فى معارك لا تنتهى مع إسرائيل، والأسر النازحة من مدن القناة بعد نكسة 67 وما اكتوت به من مشاعر الفقد والتيه فى مدن مصر وما خسرته من مقدرات بسبب الدمار الذى ألحقته الحرب بهذه المدن، هؤلاء جميعاً مالوا إلى تأييد الخطوة التى خطاها السادات، وسعدوا للغاية وهم يسمعونه يردد «لتكن حرب أكتوبر آخر الحروب».
الأمر كان مختلفاً بالنسبة لأجيال الشباب الذين فتحوا أبصارهم على التجربة الناصرية ولقّنهم الآباء وأرضعتهم الأمهات أن إسرائيل هى العدو وأنها الدولة التى زرعها الاستعمار لتكون رأس حربة له فى المنطقة وأنها تخطط للسيطرة على مصر وأن خريطتها الاستيطانية تمتد من النيل إلى الفرات وأن الحرب هى الطريق الذى رسمته لنا الأقدار مع هذا الكيان. هذا الجيل من الشباب أنكر على «السادات» الخطوة بل اتهمه بخيانة القضية التى تربى عليها، وسانده فى هذا الاتجاه بعض التيارات السياسية، مثل تيار اليسار الذى وصف زيارة السادات لإسرائيل بـ«الزيارة الخيانية» فيما كان يوزعه من منشورات خلال هذه الفترة.
كان لكل فريق عذره ومبرراته، فجيل الأداهم الكبار رأى أن مصر لن تستفيق إلا إذا تركت الحرب وتفرغت للبناء، وكفانا ما دفعناه من دماء غالية وأموال دمرت معيشتهم. وقد نجح «السادات» فى مداعبة هذا الجيل من خلال الربط بين «السلام والرخاء» وقرر فى أكثر من مناسبة أن خروج مصر من دائرة الحرب الملعونة هو الكفيل بتحقيق أحلام المواطن فى معيشة أفضل يستعيد بها ذكريات «أدهم الأول» فى الحديقة والناى (فيلا بحديقة صغيرة).
فى المقابل كان جيل الشباب فاقد الثقة فى الرئيس، ويرى أنه أراد أن يكمل ثورته المضادة ضد «يوليو 1952»، وأن الشعب لن ينال شيئاً بل ستتعمق جراحاته السياسية والاقتصادية أكثر وأكثر، ناهيك عن أن مخزون الأفكار والشعارات التى تربى عليها كانت تحول بينه وبين قبول هذه الخطوة، وشخّص أحد كبار أساتذة علم النفس فى ذلك الوقت «الدكتور محمد شعلان» أزمة المصريين الرافضين السلام مع إسرائيل وذكر أن أساسها «الحاجز النفسى»!.