«أنا غريب، مش م البلد دى»، «الشقة من حقى، أنا معايا عقد».. ظل «شحاتة أبوكف» يكرر هاتين الجملتين فى وجه «عفاف عبدالواحد» على مدار مشاهد عديدة من فيلم «غريب فى بيتى». «عفاف» هى الأخرى كان لديها عقد إيجار للشقة، وبذا فهو لا يفضلها فى شىء. لم يفهم «أبوكف» أن أزمته ليست فى العقد بل فى الثقافة الغريبة التى حملها إلى البيت. الثقافة المختلفة هى أصل الصدام بين الشعوب والأنظمة السياسية. نعم، هناك أسباب أخرى عديدة قد تؤدى إلى الثورات، لكن يبقى أن حركة المجموع ضد فرد أو حزب أو جماعة تجد أسبابها العميقة فى إحساس يتولد لديه بأن ثمة فجوة ثقافية تفصل بينه وبين من يحكمه، حتى ولو كان يملك سنداً على ذلك. ذلك ما حدث بالضبط بين المصريين والإخوان يوم 30 يونيو 2013.
كيف وصل بنا المشهد إلى 30 يونيو؟
فى البدء كان «الصدام الثقافى» وكذلك فى المنتهى.
منذ اللحظة الأولى لظهور الإخوان داخل ميدان التحرير يوم 28 يناير 2011 بدأت «السحنة العامة» للشارع المصرى فى الاختلاف. فشتان بين شباب عادى غير مسيس تحرك خلال الأيام الأولى لثورة يناير ووجوه الإخوان التى قفزت داخل المشهد فى الأيام التالية. فارق كبير بين الوجوه المنحوتة بالأمل فى حياة أفضل، ووجوه أخرى لا تكاد تبين من فرط إطلاق العنان للذقون كى تنمو، البون شاسع بين ابتسامة خضراء مغموسة بالأمل والمحبة للجميع، وابتسامة صفراء مصنوعة هدفها الدعاية والتنويم ليس أكثر. خرائط الوجوه تنبئ بالثقافة المختزنة داخل العقل والنفس. فى الميدان كان الاحتكاك بين الثقافتين، ولحظة الخروج منه كانت فاصلة بين الطرفين، حين سار كل طرف منهما فى طريق. فليس من الطبيعى أن يرافق المرء إنساناً غريباً عنه فى طريق.. وقديماً قيل الرفيق قبل الطريق.
تدفقت الأحداث سريعاً، وفى الوقت الذى أوى فيه كثيرون إلى الظل تزاحمت أروقة مجلس الشعب ثم مجلس الشورى بالذقون الإخوانية.. تساءل الناس: «ما هذه الدقون كلها؟».
فى إحدى الجلسات حان موعد صلاة العصر فإذا بأحد النواب يعلو صوته بالأذان.. ما هذا؟!.. إنها مشاهد كانت تتصادم مع الثقافة العامة بين المصريين التى تقدس حقيقة أن لكل مقام مقالاً وأن القبة التى كانت كل هذه الذقون تجلس تحتها «قبة مجلس شعب» وليست «قبة جامع». المخزون الثقافى للمواطن البسيط فيه أن «كل ميسر لما خلق له». فلماذا يترك عضو مجلس النواب شغلته الأساسية فى الدفاع عن حقوق المواطنين والمساهمة فى تحسين أحوالهم وسن التشريعات التى تحقق العدل بينهم ويعمل «مؤذناً»؟. ولماذا لا يكتفى رئيس الدولة بأن يؤدى صلاة الجمعة، ويصر على ممارسة أحد أحلامه الضائعة بأن يصبح خطيباً فى زاوية؟
أين الأفكار المبتكرة والحلول الناجزة والمنجزة؟
ليست تلك هى الصورة المرسومة لرئيس الدولة أو حاكم البلاد داخل الذهنية العامة للمصريين. فجأة شعر المواطن العادى بأن غريباً يجلس فى مجلس شعبه وشوراه وكذلك داخل مقر الرئاسة.
6 أكتوبر يوم فريد فى الذاكرة الثقافية المصرية، فهو يوم النصر واسترداد الأرض والكرامة. وهو بلا منازع يوم أنور السادات (رحمه الله)، فى الاحتفال بالذكرى الـ39 للنصر عام 2012 فوجئ المصريون بطوفان من الذقون تتزاحم داخل الاستاد (غريب حتى داخل الاستاد!).
دعك من ذلك وانظر إلى الأغرب الذى أدهش المصريين حين وجدوا شخوصاً من المتورطين فى اغتيال الرئيس الشهيد السادات جالسين داخل الاستاد!
بدا الإخوان وكأنهم يُخرجون لسانهم للشعب. هذا المشهد بالذات كان له تأثير بالغ الأثر فى نفوس المصريين. وقتها شعروا أن الجماعة تريد أن تحيل النصر الذى ظل المصريون يفاخرون به 4 عقود متصلة إلى هزيمة ساحقة لمخزونهم الثقافى.
بعد 80 عاماً طوال حشت فيها الإخوان أدمغة الكثيرين بشعار «الإسلام هو الحل» بدأت بعد الوصول إلى الحكم فى إعداد طبخة جديدة عنوانها «مشروع النهضة». هل تذكر؟!. مكث الشعب ينتظر أن يهبط «طائر النهضة» فوق أرض المحروسة شهراً فشهراً، لكن الأمور كانت تتعقد أكثر فأكثر، والخدمات التى كان يحصل عليها بالأمس أصبح لا يجدها اليوم إلا بشق الأنفس.. أين النهضة؟.. بدأت ألسنة الإخوان تتحدث عن الزكاة كأساس للاقتصاد، و«لبيك يا سوريا»، و«لبيك يا غزة» كأساس للعلاقات الخارجية، والصبر كمفتاح للفرج.
الصدمة الثقافية التى عاشها المصريون أمام هذه المشاهدات كانت عنيفة. فالمصرى لم يعهد فى الدولة أن تؤدى فى الاقتصاد مثل تاجر المانيفاتورة، وفى السياسة الخارجية من منظور «عركة فى حارة» وفى الاجتماع بمقولة «تفرج إن شاء الله».
30 يونيو سيظل شاهداً على أن هذا الشعب لا يسكت على أى نظام سياسى لا يفهم تركيبته الثقافية. وأن أى نظام يتصادم مع هذه التركيبة يحكم على نفسه بالتغريبة التى عاشها الإخوان عندما أشعروا أهالى المحروسة بأن «غريباً يرتع فى بيتهم».