بقلم: د. محمود خليل
فى الوقت الذى كان يوقع فيه الرئيس الأمريكى «ترامب» أمراً تنفيذياً بإلغاء بعض جوانب الحماية القانونية الممنوحة لشركات التواصل الاجتماعى، كانت أعمال الشغب والسلب والنهب والحرق تشتعل من جانب السود بمدينة «مينيابوليس» بالولايات المتحدة، بعد مصرع شاب أمريكى أسود على يد رجل شرطة. الأمر التنفيذى الذى وقّعه «ترامب» يتيح للجهات التنظيمية سلطة الملاحقة القضائية لشركات، مثل «فيس بوك» و«تويتر»، بسبب سياسة مراقبة المحتوى على منصاتها.
محاولة «ترامب» للتضييق على مواقع التواصل سببها تشكيك موقع «تويتر» فى تغريدتين لـ«ترامب» حول الاقتراع بالبريد، طلب «تويتر» من متابعيه تقصى الحقيقة فيهما، والتأكد من صدق ما تحتويان عليه من معلومات. ورد «ترامب» على ذلك بأن منصات التواصل الاجتماعى تتمتّع بـ«سلطة لا حدود لها»، ووقّع على قرار رفع الحماية عنها. علمياً يقع مطلب «تويتر» بتقييم مستوى دقة المعلومات التى تشتمل عليها بعض التغريدات فى سياق ما يُطلق عليه «النقد الرقمى». وثمة دراسات كثيرة -تقع فى هذا السياق- أشارت إلى الدور الذى لعبته بعض المعلومات الكاذبة فى دعم موقف «ترامب» فى انتخابات 2016. وأشار أحد الباحثين الأمريكيين إلى أن أكثر من 100 موقع إلكترونى استضافتها مدينة «فيليس» (بجمهورية مقدونيا) مارست صناعة الأخبار الكاذبة، وأن أكثر هذه المواقع كان مؤيداً لـ«ترامب». ولا يعنى ذلك بطبيعة الأمر عدم كذب الطرف الآخر الديمقراطى فى رسائله الانتخابية. فالتجربة تقول إن لعبة الانتخابات هى واحدة من كبريات ألعاب الكذب فى الواقع السياسى المعاصر.
المسافة بين قرار «ترامب» برفع الحماية عن مواقع التواصل الاجتماعى وأحداث «مينيابوليس» ليست بعيدة. فقد اشتعلت الأوضاع بسبب فيديو تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعى يصور ضابط شرطة أبيض وضع ركبته على رقبة جورج فلويد (شاب أمريكى أسود)، بينما كان الأخير مقيداً وطريحاً على الأرض، وهو يناشد الضابط: «لا أستطيع التنفس». وبعد ذلك تم إعلان وفاته. المواطنون الذين خرجوا للانتقام لمقتل «جورج» أخذوا يصرخون بأن الشاب الأسود لم يأتِ بأى تهديد للضابط الأبيض يستدعى إذلاله وقهره وقتله، ورغم أن السلطات فى مينيابوليس اتخذت قراراً بفصل 4 ضباط ذوى صلة بالحادث، إلا أن ذلك لم يقنع الغاضبين، الذين أخذوا يثرثرون بأن أياً من هؤلاء الضباط لن يخضع لمحاكمة، وبالتالى ستذهب دماء الضحية هدراً ولن تتحقق العدالة على يد السلطة الأمريكية، وبالتالى قرروا الخروج لتحقيق العدالة بأيديهم.
الشىء اللافت أن «ترامب» وصل إلى البيت الأبيض عام 2016 عبر مركبة «الشعبوية»، والخطاب الدعائى الذى يختلط فيه الدين بالسياسة، والحقائق الثابتة بالأوهام والأكاذيب، والمعلومات الدقيقة بالأخرى المشكوك فى صحتها. والطابع الشعبوى الغالب على خطاباته منذ أن تولى الحكم واضح وضوح الشمس. وحركة الغاضبين فى مينيابوليس هى الأخرى شعبوية بامتياز. والعجيب فى الأمر أن يشكو الرئيس ترامب ويحاول محاصرة أهم أدوات الشعبوية فى الفترة الحالية، وهى مواقع التواصل الاجتماعى، التى مثلت فى ما سبق ذراعاً مهمة من أذرعه الانتخابية والدعائية. وفى ظنى أن الأحزان والآلام التى اكتوت بها شعوب العالم بالترافق مع انتشار فيروس كورونا، سوف تهز عرش الشعبوية والشعبويين هزة عنيفة، لأن ألعاب الكذب لم تعد تجدى!.