بقلم : محمود خليل
«النفاق» ابن شرعى للخوف من المغارم أو الطمع فى المغارم، أو كليهما. الرئيس جمال عبدالناصر كان شخصية كاريزمية عبّرت عن زعامة لا ينكرها أحد، لكنه فى النهاية لم يكن ديمقراطياً. الظرف الذى كانت تحياه مصر خلال الخمسينات والستينات والسياق الإقليمى والدولى حينذاك لم يكن يمانع فى وجود زعيم لا يؤدى بالدرجة المطلوبة من الديمقراطية. كثيرون ممن أحاطوا بالرئيس خلال السنوات الأولى للثورة ابتعدوا أو أُبعدوا عن دائرة الرئاسة بمرور الوقت، لم يبق حول الرئيس إلا من آثر السلامة، وحرص على إسماع الرئيس ما يريد الاستماع إليه، أو بقى متميعاً مثل الماء، قوله بلا طعم ولا لون ولا رائحة. ومن حول «عبدالناصر» تكونت دوائر مصالح كانت تجيد مغازلة الزعيم بما يرضيه، وتتقن أيضاً مداعبة الرجل الثانى فى مصر حينذاك، المشير عبدالحكيم عامر. المبدأ الذى حكم كثيراً من «أداهم» هذه الدوائر طأطأة الرأس أمام الكبير والتعالى على من هو أدنى، ومن هو أدنى يلعب اللعبة نفسها مع من هو أدنى، وهكذا دواليك.
كان من الطبيعى والحال هكذا أن تسيطر معادلة «الهلع/ الطمع» على المشهد. الخوف كان لسان المرحلة التى تعوّد «الأدهم» خلالها أن يكون الكلام بحساب، والصوت همس لأن ثمة آذاناً تسمع. قطاع كبير من الأداهم أحب «عبدالناصر»، لكنه كان يخاف منه، ويرتعد مما يسمعه عن الماورائيات!. أخذ «الأدهم» يعانى من مشكلات معيشية متنوعة بسبب ما أنفقته السلطة على حرب اليمن وأثرت تأثيراً مباشراً على حياته، ربما كان يجد أن من حقه أن يسأل عن المغزى أو الجدوى من هذه المغامرة، أو أن يستسلم لشعور إنسانى بالغضب من تردى الخدمات، لكنه كان يتردد فى السؤال أو التعبير عن الغضب لأنه يخاف. وخوفه كان يدفعه باستمرار إلى التغنى بكلمات السلطة وأناشيد إذاعتها وعبارات صحفها، بعبارة أخرى وجد «الأدهم» فى النفاق نجاة من كلفة لا يحتملها، ولم تكن الأمور من السوء خلال عهد «عبدالناصر» بشكل يدفع الأداهم، خصوصاً من البسطاء، إلى ترك رذيلة النفاق والانفجار فى القول أو الفعل.
الأداهم الصغار إذاً كانت لديهم مبررات مقبولة بعض الشىء لدغدغة مشاعر السلطة وكيل المديح فى حقها، ولم يكن أى منهم يدرى ما تخبئه الأقدار لهم بعد 5 سنوات من حرب اليمن (عام 1967). العلة الأكبر فى النفاق كان مصدرها الديدان الأدهمية الطامعة، تلك التى تنافق من أجل تحقيق المطامع. وهى طفيليات لا تتمتع بقدرات علمية أو خلقية أو إنسانية تمكنها من تحقيق طموحاتها، بل على العكس تماماً، فهى جماع من أصحاب القدرات الضحلة وأنصاف المتعلمين والموهوبين، ممن تتمركز مواهبهم فى القدرة على النفاق. وتستطيع أن تؤرخ لظهور الفساد فى الجمهورية الأولى بسيطرة هذه الطفيليات الأدهمية على الكثير من المراكز والمواقع داخل مؤسسات الدولة وشركات القطاع العام، وقد تمكنت هذه الفئة من التكاثر والتوالد وإعادة إنتاج نفسها وتجديد خلاياها عند الانتقال من جيل إلى جيل، ورغم الصدمة العاتية التى تعرضنا لها عام 1967 إلا أن شيئاً لم يتغير فى «لعنة النفاق» التى ضربت الجمهورية الأدهمية.