بقلم : محمود خليل
مات جمال عبدالناصر، وماتت معه حقبة كاملة هى حقبة الستينات، وسقطت بيضة الحكم فى حجر الرئيس «السادات». الأداهم كانوا يعرفونه جيداً. فهو رئيس مجلس الأمة الذى ارتبط بواحد من أشهر الأحداث التى شهدتها المحروسة بعد نكسة 1967. وهو حادث تنحِّى الرئيس عبدالناصر ثم عدوله عن القرار نزولاً على رغبة جماهير 9 و10 يونيو. كانت أياماً مشهودة، ومؤكد أن كل مَن ظهر على المسرح خلال تفاعلات هذا الحدث اكتسب نوعاً من الحضور لدى الجماهير الأدهمية، بمن فى ذلك عضو مجلس الأمة الذى انتشى وطرب عندما سمع السادات يتلو قرار «ناصر» بالعدول عن التنحى، فقام ورقص «عشرة بلدى».
النائب الراقص كان جزءاً من حالة من حالات الدروشة أو الزار الجماعى التى سقط فيها قطاع كبير من الأداهم بعد النكسة، فخرج مروِّجو الأساطير والحكاوى يقولون إن السيدة زينب بنت على -رضى الله عنهما- زارت عبدالناصر فى المنام ودعته إلى كسوة مقصورتها بالسواد حزناً على مَن استشهد من المصريين وتبشره بالنصر، وأعقب ذلك شلال الحديث عن ظهور العذراء مريم ابنة عمران فى كنيسة الزيتون (أبريل 1968). من الناحية الشكلية لا يوجد فارق كبير بين الدوار الناتج عن الضرب بعصا غليظة على أم الرأس والترنح فى حفلات الزار. الأداهم كانوا متعبين للغاية ويبحثون عن طوق نجاة يتعلقون به، ويتشبثون بأى بارقة أمل تخرجهم من الظلام المدلهم الذى أحاط بهم من كل اتجاه.
«السادات» كان معروفاً للأداهم. وكان مشهوراً بينهم كواحد من ضمن آحاد من الضباط الأحرار الذين تمكنوا من الاستمرار على مسرح الأحداث بعد أن خرج -أو أُخرج- رفاق الحركة المباركة من المشهد الواحد تلو الآخر. استشعر الأداهم فى نظرة «السادات» وهيئته ونبرة صوته شخصية الفلاح المصرى وما تمتاز به من صبر وطول بال وقدرة على التحمل حتى يصل إلى مبتغاه.
الزراعة تعلم الدأب فى رعاية البذرة والصبر على الشجرة حتى تثمر وعلى الثمرة حتى تنضج، وتلقن الفلاح دروساً فى تحمل رذالات البشر حتى يجنى ثمرة صبره.
استوعب «السادات» درس رأس الذئب الطائر وهو يتأمل الطريقة التى أدار بها «ناصر» علاقته برفاقه من الضباط الأحرار.
فمحمد نجيب محدد الإقامة فى المرج، ويوسف صديق سِيق إلى السجن، وخالد محيى الدين إلى النفى الرسمى المزين بالسفارة، وكمال الدين حسين وعبداللطيف البغدادى إلى الخروج من المشهد والانزواء فى البيوت، أما عبدالحكيم عامر فقد قابل ربه بعد النكسة.
تعلم «السادات» أن الزمن «زمن ناصر» وأنه «لا صوت يعلو فوق صوت عبدالناصر»، لقد عاين ذلك بنفسه وهو يرى الأداهم يتمسكون بزعيمهم الذى جلب لهم أعنف هزيمة فى تاريخهم فى 9 و10 يونيو.
مثل كل المحيطين والمقربين كان «السادات» يعلم بتدهور الحالة الصحية لعبدالناصر والدمار النفسى الذى يعيشه بعد الهزيمة، فمكث -غير بعيد- فى انتظار ما هو متوقع، حتى نعى الناعى «ناصر»، ونادى المنادى فى أجهزة إعلام المحروسة بمحمد أنور السادات رئيساً جديداً للأدهمية.. وسبحان مَن له الدوام.
وقد يهمك أيضًا: