بقلم: د. محمود خليل
سعد الملايين من الفقراء وأبناء الطبقة المتوسطة بالقرارات التى اتخذها جمال عبدالناصر، ويسرت لهم سبل العيش، ولم يفكر أحد فى المردود الحالى أو المستقبلى لهذه القرارات على المزاج النفسى للشعب. تعالَ مثلاً إلى مسألة مجانية التعليم وراجع التأثيرات التى ترتبت على القرار الذى اتخذته ثورة 52 بجعل التعليم مجانياً فى جميع المراحل الدراسية. بداية، من المهم الإشارة إلى أن التعليم بدأ مجانياً فى عصر محمد على، وقرار فرض المصروفات على التعليم الثانوى ارتبط بالاستعمار الإنجليزى، فقد اتخذ المعتمد البريطانى «كرومر» هذا القرار بهدف ضبط عدد الملتحقين بالمدارس، مما يحول دون وجود خريجين لا حاجة لدولاب الدولة إليهم، وكانت المجانية تُمنح للمتفوقين فى كل مراحل التعليم، وإلا كيف تعلم عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين رغم تواضع المستوى الاقتصادى لأسرته؟
أقر دستور 1923 مبدأ مجانية التعليم الأوّلى (الإلزامى) وجعله حقاً لكل المصريين، ثم قرر طه حسين أثناء توليه وزارة المعارف عام 1951 جعل التعليم الثانوى مجانياً هو الآخر، ولما قامت الثورة عام 1952 اتخذ جمال عبدالناصر قراراً بجعل التعليم مجانياً فى كل المراحل بما فى ذلك التعليم الجامعى، وأكدت التعديلات الدستورية عام 1966 على مبدأ مجانية التعليم فى كل المراحل كحق من حقوق المواطنة. مثّل هذا القرار واحداً من القرارات الكبرى التى دعمت شعبية عبدالناصر. وليس هناك خلاف على قيمة التعليم وكونه حقاً من حقوق المواطنة، لكن ثمة سؤالاً يتعلق بمدى استعداد المؤسسات التعليمية -خلال حقبة الستينات وما بعدها- لاستيعاب عدد غير محدود من المتعلمين وقدرتها على تقديم خدمة تعليمية حقيقية لأعداد الطلاب المتزايدة؟
شأنه شأن كل القرارات الشعبوية الأخرى التى اتخذها «ناصر» دعم قرار «المجانية» شعبية القيادة، لكنه أضر بمستوى الخدمة التعليمية أشد الضرر، فقد اضطرت الجامعات والكليات إلى قبول أعداد تفوق قدرتها على الاستيعاب، وأصبحت معامل لتفريخ الحاصلين على شهادات وليس المتعلمين تعليماً جيداً، وقد تفاقمت هذه المشكلة بشكل أكبر بعد نكسة 1967، وتوجيه كل قدرات الدولة لدعم المجهود الحربى. وبمرور السنوات أصبحت الشهادة واحدة من كبرى العقد الاجتماعية التى تحرك المواطن. فالكل يسعى إلى الحصول عليها بأى طريقة وبأى ثمن، وفى الوقت الذى كانت تتصاعد فيه قيمة الشهادة كانت قيمة التعليم تتآكل والطلب عليه يتراجع. أصبح البلد «بلد شهادات» وليس «بلد تعليم»، كما كان يتندر عادل إمام فى مسرحية: «أنا وهو وهى» منتصف الستينات. ومع تزايد عدد الخريجين كل عام وعجز الدولة عن توفير فرص عمل لهم تفاقمت مشكلة البطالة أكثر وأكثر.
فى أحد الحوارات التليفزيونية، التى أجريت معه، حكى جراح القلب العالمى الدكتور مجدى يعقوب أن المسئولين بكلية الطب عندما كان طالباً بها، شكوا إلى جمال عبدالناصر تبرم بعض الأساتذة الأجانب من زيادة أعداد الطلاب بصورة تفوق قدرتها على الاستيعاب وتقديم خدمة تعليمية حقيقية، سخر عبدالناصر من الشكوى وطلب من المسئولين عن الكلية التخلص من أى أستاذ يرفض زيادة الأعداد. لا نستطيع على وجه التحديد أن نقرر هل كان دافع جمال عبدالناصر للقرارات الشعبية التى اتخذها تستهدف حشد الجماهير من حوله أم كان مدفوعاً فيها بطموحه إلى بناء دولة قوية. قد يكون هناك تداخل بين العاملَين، لكن فى كل الأحوال تقول حقائق التاريخ إن النتائج التى ترتبت على قرارات مجانية التعليم وتوزيع الأرض على الفلاحين وخفض الإيجارات انطوت على سلبيات عديدة، وافتقرت فى جوانب منها إلى الرؤية الموضوعية للواقع، وإن حسابات الشعبية فيها تغلبت على «حسبة الإمكانيات والتداعيات».