بقلم: د. محمود خليل
كان لا بد للدائرة أن تكتمل. فمع الأخذ بسياسة الانفتاح الاقتصادى، وفتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية، وظهور القطاع الخاص وتفرغه لإنتاج السلع الاستفزازية القادرة على تحقيق أرباح سريعة، ومع التوجه نحو الولايات المتحدة الأمريكية وبروز دورها كراعٍ لعملية السلام بين مصر وإسرائيل، كان من الطبيعى أن تتجه الدولة الساداتية إلى صندوق النقد الدولى، وتستعين بخططه فى إصلاح العجز فى الموازنة العامة. وروشتة الصندوق فى هذا السياق معلومة بالضرورة، وهى تركز أكثر ما تركز على تحرير الدولة من الأعباء التى تلتزم بها إزاء المواطن، وأبرزها الدعم.
خرجت وسائل الإعلام المصرى على الأداهم بقرار يقول إن الحكومة قررت رفع أسعار السلع الأساسية: الزيت والسكر والدقيق والخبز بـ«التعريفات والصاغات». فزاد سعر رغيف العيش البلدى من «تعريفة» إلى «قرش صاغ»، وزاد سعر رغيف الفينو من «صاغ» إلى «ثلاث تعريفات».. وقِس على ذلك. والقرش والتعريفة عملات يعرفها من عاصر حقبة السبعينات وأوائل الثمانينات. وما إن سمع «الأداهم» الأخبار تدفقت قطاعات من العمال والطلاب إلى الشوارع يوم 18 يناير 1977 وأخذوا يهتفون ضد «السادات» وحكومته، وتحولت المظاهرات فى مرحلة تالية إلى مواجهات عنيفة بين الأمن المركزى والشعب، وانطلقت بعض العناصر تخرب وتنهب وتسرق محلات ومشروعات الانفتاح الاقتصادى وتعبّ من السلع الاستفزازية عباً. تواصلت المظاهرات يوم 19 يناير وتم فرض حظر التجوال، ولم تتوقف الاحتجاجات حتى خرج «السادات» على الشعب وأعلن أن كل الحكومات تخطئ وتتسرع، وأنه قرر التراجع عن قرارات رفع الأسعار.
وصف «السادات» ما حدث بـ«انتفاضة الحرامية» فى محاولة لتبرئة ساحته والإلقاء باللوم على الأداهم. ووقائع ما حدث خلال اليومين تقول بوجود عمليات سرقة وسلب ونهب من جانب حرافيش الأداهم من أطفال الشوارع والمتعطلين المتزاحمين فى شوارع القاهرة وغيرها من المدن، لكن ذلك لا يمنع من أن الكتلة الأكبر التى شاركت فى المظاهرات من العمال وطلاب الجامعات ومن انضم إليهم من أولاد البلد لم تخرج بهدف مد اليد بالسرقة، بل لمد اليد إلى الحاكم رجاء أن يعينها على الحياة، كان الأداهم يهتفون بأوجاعهم التى تسبب فيها الغلاء والعجز عن الإنفاق وتدهور الأحوال المعيشية والخدمية، لذا فقد أطلقوا على مظاهراتهم «انتفاضة الخبز».
كانت أحداث يناير 1977 حدثاً فارقاً فى تجربة الدولة الساداتية، وظل عالقاً بمخيلتها طيلة السنوات التالية. ومثل أى حاكم اعتلى عرش الأدهمية ترك السادات الأصل وتعلق فى الفرع، فحاول أن يعلق طوق المسئولية فى رقبة اليساريين والناصريين واتهمهم بالتخريب، ولم يفكر ولو للحظة فى أن سياسة الانفتاح وما ولدته من ثروات مشبوهة، والحياة المخملية التى بدأ المحيطون بمركز الحكم فى التمتع بها، بما فى ذلك الرئيس الذى صنف من ضمن أشيك رؤساء العالم، فى حين كانت «أداهم» الشعب تعانى الأمرَّين بسبب غلاء الأسعار وتراجع مستوى الخدمات (الكهرباء - مياه الشرب - الصرف الصحى)، ثم أكملت حكومته الدائرة بإلغاء الدعم ورفع أسعار السلع الأساسية التى يتعيش عليها بسطاء الأدهمية. لم يفكّر السادات فى أن تكون سياساته وإجراءاته هى التى أجبرت الأداهم على النزول، بل صب جام غضبه على التيارات السياسية التى أطلقت على ما حدث انتفاضة الخبز، وصرخ فى وجوههم بعبارته الشهيرة «دى انتفاضة حرامية».