بقلم: د. محمود خليل
أغلب شعوب العالم تعيش حالة عميقة من الاضطراب والحيرة وهى تتابع مسارات انتشار فيروس كورونا. كثيرون يتساءلون: لماذا لا توجد فروق ذات قيمة بين الدول التى فرضت حزمة من الإجراءات الاحتياطية لمنع انتشار الفيروس والدول التى لم تفرض سوى سلسلة محدودة من الإجراءات، وتركت الناس فى الشارع والعمل؟ ولماذا يجد الفيروس بيئة خصبة فى الدول الأكثر ثراء وتقدماً، فى حين يبدو على عكس ذلك داخل بعض الدول الأقل تقدماً؟. وما السر فيما تقوله إحصائيات الوفاة بالفيروس، حول ارتفاع نسبة المتوفين من السود قياساً إلى البيض (فى الولايات المتحدة)، والرجال قياساً إلى النساء، وكبار السن أكثر من الصغار؟.
الأرقام قد تكذب لبعض الوقت، لكنها لا تستطيع أن تتجمل أو تجمّل الواقع طول الوقت. المقارنة بين الأرقام التى تعلنها كل من الولايات المتحدة والبرازيل حول انتشار الفيروس تثير الحيرة. عدد المصابين فى الولايات المتحدة يقترب من 600 ألف شخص، وعدد المتوفين يتجاوز الـ22 ألفاً. فى المقابل يبلغ عدد المصابين فى البرازيل ما يقرب من 23 ألفاً، وعدد المتوفين ما يقرب من 1500 شخص!. رحلة فيروس كورونا بدأت فى كل من الولايات المتحدة والبرازيل فى نفس التوقيت «17 مارس 2020». تعامل «ترامب» بخفة مع الأمر فى البداية، ثم بدأ فى اتخاذ إجراءات تصاعدية وصلت منذ يومين إلى إعلان حالة «الكارثة الكبرى» فى كافة الولايات الأمريكية. فى المقابل استخف الرئيس البرازيلى «جايير بولسونارو» بالأمر، ولم يغير رأيه، كما فعل «ترامب»، واتهم الإعلام بإشاعة الهلع والخوف بين الناس، ووصف كورونا بأنها «مجرد إنفلونزا صغيرة»، وأضاف: «لا يمكننى أن أوقف مصنعاً لإنتاج السيارات بسبب وقوع حوادث». مؤكداً أن الأرقام الخاصة بالإصابات داخل كل من الولايات المتحدة والبرازيل لا بد أن تقرأ فى سياقاتها، فعدد سكان الولايات المتحدة يزيد على 327 مليوناً، والعدد فى البرازيل 210 ملايين، ولكن علينا أن نأخذ فى الاعتبار أن مستوى الرعاية الصحية فى الولايات المتحدة الأمريكية أفضل من نظيره فى البرازيل. وفى كل الأحوال يبقى السؤال: ألا تثير المقارنة بين الدولتين الحيرة؟
والمتتبع لخريطة انتشار فيروس كورونا فى قارات ودول العالم المختلفة يلاحظ أن جغرافيا الثراء والاستقرار والقدرة تسير جنباً إلى جنب مع «الفيروس». فالانتشار الأكبر يظهر داخل المساحات الجغرافية الأكثر تقدماً فى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وآسيا، ويقل بعد ذلك فى أمريكا الجنوبية وأستراليا وأفريقيا. هل يكمن تفسير ذلك فى عادات أو أجواء معينة أو ظروف أو إرادات محددة تجعل الدول الأكثر تقدماً واستقراراً، مثل أمريكا وإسبانيا وألمانيا وإنجلترا أشد عرضة للإصابة من الدول التى يهلكها ضعف المقدرات والصراعات الداخلية، مثل سوريا واليمن والعديد من الدول الأفريقية الأخرى؟. الإرادة هنا يمكن أن نفهمها بالمدلول البشرى، ويصح أن نفهمها أيضاً بالمدلول الإلهى الذى تجد ترجمة بديعة له فى المثل المصرى الذى يقول: «ربنا بيبعت البرد على قد الغطا».
فيروس كورونا يبدو متحيزاً على مستويات عديدة، اثنية وعمرية ونوعية، وكأنه يختار ضحاياه. هذا التحيز هو سر اللخبطة والحيرة التى تضرب العقل البشرى حالياً، خصوصاً أن محاولاته لتفسيرها عادة ما تكون معدومة الجدوى.