بقلم: د. محمود خليل
لا بد من التنبيه إلى أن فكرة «البحث عن مهدى» لا تتعلق بالمصريين وحدهم، بل تنسحب على جميع الشعوب المسلمة التى يشكل الموروث الدينى جزءاً لا يتجزأ من خرائط تفكيرها وبنيتها الثقافية، لكن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أن المصريين أكثر تشبثاً من غيرهم بهذه الفكرة، وقد يكون السر فى ذلك أننا من أقدم شعوب العالم، ما يجعل تعلُّقنا بالماضى كبيراً، وثمة مؤشرات عديدة تدلل على أن انشغالنا بالماضى يفوق همنا بالحاضر واهتمامنا بالمستقبل. تقول الأرقام إنه خلال الفترة من عام 2000 حتى عام 2012 ظهر 19 شخصاً ادعى كل منهم أنه المهدى المنتظر، ما يعنى أن مصر تنتج مهدياً ونصفاً فى العام الواحد!.
مسألة البحث عن مهدى -كما ذكرت لك- قديمة، وأول من اقترب من طرحها فى مصر عبدالله بن سبأ الذى يصنفه كتاب التراث ضمن أبرز الشخصيات التى أشعلت الفتنة الكبرى فى عهد عثمان وما تلاه. فى زيارة له إلى مصر أثناء احتدام أحداث الفتنة تحدث «ابن سبأ» حديثاً عجيباً عن رجعة النبى صلى الله عليه وسلم وأخذ يقول: عجبت لمن يقول إن محمداً لا يرجع وهو يقرأ فى كتاب الله: «إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ». وقد تحورت الفكرة السبَئِيَّة بمرور الوقت وتطورت وقدمت قاعدة تفسيرية لحدوتة «المهدى»، على أساس أنه الشخص الذى سيعود بتعاليم «محمد» إلى سابق عهدها، ليسود العدل والقسط بين الناس.
أفرط «ابن سبأ» فى الزج بالعديد من الأساطير فى الوجدان الإسلامى، فلم يتوقف عند الحديث عن «رجعة النبى» بل أخذ يردد أن «علياً» يعيش فى السحاب وصوته الرعد. وفكرة «الرجعة» -كما تعلم- شيعية بامتياز، والمذهب الشيعى يولى أهمية كبيرة للأئمة ويضعهم فى مرتبة عُليا، ويستند بعضهم إلى الآية الكريمة التى تقول: «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ». والهادى يفهمه الشيعة على أنه الإمام، أما السُّنة فيعتبرونه «المهدى». كلاهما غائب، وكلاهما له رجعة. وفكرة عودة «إمام الهدى» أو «المهدى المنتظر» شرك بين المؤمنين بكل الأديان.
فى كل العصور تفاعل المصريون مع فكرة المهدى بقدر لا بأس به من الإيجابية، فخرج مواطنون بسطاء كُثر أتوا من قرى مصر ونجوعها وكفورها وعشوائياتها ومخططاتها وأعلنوا أنفسهم هداة مهديين. ولا خلاف على أن حالة الشغف المصرى بالفكرة بشكل يفوق شغف الشعوب الأخرى بها. وقدم هذا الشغف سواء بين المصريين أو غيرهم من الشعوب الإسلامية مرده أجواء القهر التى عاشوا فى ظلها تحت حكم ولاة الدولة الأموية ثم العباسية ثم الدولتين المملوكية والعثمانية، ووجد بعض المغامرين فى الفكرة فرصة طيبة ليقدموا فيها شخوصهم على أنهم «المهدى المنتظر» الذى جاء ليملأ الأرض عدلاً وبشراً ورحمة.
فكرة «البحث عن مهدى» تتسق إلى حد كبير مع المزاج المصرى، وهو الاتساق الذى يجد سره فى أسلوب تعامل المصريين مع مشكلات الحياة بمنطق «التمنِّى» وليس «التبنِّى». تجد فكرة «التمنى» حاضرة بقوة فى آلة الدعاء التى يهواها المصريون منذ الفتح الإسلامى وحتى الآن. ولست أقلل بالطبع من قيمة الدعاء، لكنَّ ثمة فرقاً كبيراً بين دعاء العامل المجتهد، ودعاء الكسول الذى يكفُّ عن السعى ويقعد عن طلب الرزق وهو يعلم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة على حد «التعبير العمرى». البون شاسع بين مَن يتبنى مشكلته ويفحص أسبابها ويتعامل معها، وبين مَن يداوى جراحاته بـ«الأمنيات الطيبة».
كلمة النهاية لم تنزل على الشاشة بعد.