بقلم: د. محمود خليل
أسرف سيد قطب فى الحديث عن آيات القتال والاستدلال بها على التأصيل لمفهومه المختزل لـ«الجهاد فى الإسلام». والمُراجع للأفكار التى ردَّدها الرجل فى هذا السياق، سواء داخل كتاب «المعالم» أو فى غيره، يجده متأثراً كل التأثر بما كتبه المفسرون القدماء، دون محاولة للتجديد ترتكز على الوعى بالسياق الذى أُنتجت فيه هذه التفاسير والالتفات إلى ظروف الواقع المعاصر الذى يؤصِّل «قطب» لأفكار سيكون لها بالغ الأثر فيه. أولى الآيات الكريمة التى رخّصت للمسلمين فى القتال هى قول الله تعالى: «وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (سورة البقرة - الآية 190). يقول «الطبرى» فى تفسيره: هذه الآية هى أول آية نزلت فى أمر المسلمين بقتال أهل الشرك. وقالوا أُمر فيها المسلمون بقتال من قاتلهم من المشركين والكف عمَّن كفَّ عنهم، ثم نُسخت بـ«براءة». يحذو الكثير من المفسرين حذو «الطبرى» ويرون أن مبدأ إلزام المسلم بعدم قتال الغير إلا فى حالة الاعتداء على دولته، تم نسخه «أى إزالة حكمه» بعد نزول سورة التوبة التى تبدأ بالآية الكريمة» «بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».
يتبنى سيد قطب وغيره من المنظِّرين لفقه الدماء الطرح الذى قدمه قدماء المفسرين، ويرى أن للمسلم أن يبدأ بالاعتداء على الغير من أجل إزالة طواغيت الأرض التى تحول بين الجماعة المسلمة -وما أكثر الجماعات- والوصول بدعوتها إلى الشعوب. ولست أدرى هل الحيلولة هنا تتم بين المتطرفين والشعوب أم بين المتطرفين والوصول إلى كراسى الحكم؟. يرى سيد قطب أن مبدأ «عدم الاعتداء على الغير» لم يعد ملزماً بعد نزول سورة «براءة» التى تقول الآية رقم (5) منها «فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ»، وتقول الآية رقم (29) منها: «قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ». استند سيد قطب وغيره إلى هذه الآيات فى إباحة الاعتداء على الغير ونفى مبدأ «الحرب الدفاعية» الذى رسخته الآية 190 من سورة البقرة.
ارتكن سيد قطب على قاعدة «الناسخ والمنسوخ» فى القرآن فى التأصيل لأفكاره الجهادية. وتشير هذه القاعدة إلى أن بعض آيات القرآن الكريم التى نزلت فى ظروف لاحقة تنسخ -أو تزيل حكم- آيات أخرى نزلت فى ظروف سابقة. مثل آية «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» التى ألزمت المسلم بالصيام، وقد نسخت آية سبقتها تقول: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ» والتى كانت تخير المسلم بين الصيام أو الإفطار مع إطعام مسكين عوضاً عن كل يوم يفطره. وعلى هذا المنوال نسخت آيات القتال فى سورة التوبة الآية (190 من سورة البقرة) التى تلزم المسلم بعدم الاعتداء. وموضوع الناسخ والمنسوخ يشكل إحدى الإشكاليات الكبرى التى أربكت المفسرين وقراء القرآن الكريم. ولأن أغلب الآيات المنسوخة (التى أُزيل حكمها) نزلت بمكة، وأغلب الآيات التى نسختها (أحلت أحكاماً جديدة) نزلت بالمدينة، فإن الطرح الذى يقدمه سيد قطب وأمثاله يشعرنا بأننا أمام قرآنَين: «قرآن مكة، وقرآن المدينة»، وبصدد إسلامين: «إسلام مكة، وإسلام المدينة». عبر هذا الطرح يسىء «قطب» ومشايعوه إلى الإسلام وكتابه الكريم إساءة بالغة، وهى تعد مواصلة لذات الإساءة التى دمغ بها قدماء المفسرين القرآن الكريم، حين أرادوا حل لغز تناقض الأحكام التى تحملها بعض الآيات من خلال الحديث عن «الناسخ والمنسوخ»، لأنهم تبنَّوا رؤية أحادية فى فهم القرآن، وسعوا إلى تثبيت حكم واحد فى المواقف المتغيرة، حتى يردوا على الشبهات التى يثيرها البعض بوجود تناقض بين آيات القرآن، وفى ظنِّى -والله أعلم- أن المسألة ليست كذلك. فالقرآن الكريم يتبنى مع البشر فكرة «المسارات المتنوعة» التى تقدم بدائل مختلفة يمكنها التناغم مع التحولات الزمنية والتغيرات المكانية واختلاف الظروف والسياقات، وذلك خلافاً للرؤية الأحادية الباحثة عن الجمود والثبات التى تبناها سيد قطب وحذا فيها حذو قدماء المفسرين.