بقلم: د. محمود خليل
الأيام لا تسير على وتيرة واحدة وظروف الحياة تتغير. ومع تبدل الأحوال يتغير الإنسان. وقد طرأ على «أدهم» بعد نزوله من البيت الكبير أحوال جديدة غيرت منه. فبعد الرحلة الطويلة التى خاضها فى بيع «الخضار» أراد أن يلحق بالتطورات الجذرية التى أحدثها الوالى الجديد محمد على فى الواقع. تذكر جلسته على المكتب الوثير المنصوب فى ساحة البيت الكبير لتحصيل الوقف من المستأجرين ثم سأل نفسه: ما الذى يمنعنى من الانخراط فى العالم الجديد الذى يشيده الوالى؟. سمع صوت نفسه وهو يناجيه: إنها فرصتك الوحيدة للعودة إلى الحياة التى تجمع بين الهيبة والاحترام والتمدد والاسترخاء بعيداً عن عنت الزرع والقلع والسياحة بقدمين حافيتين فى الحوارى والأزقة، وشرب المرار فى الفصال مع المشترين، ثم العودة آخر النهار بقروش معدودات لا تسمن ولا تغنى من جوع، يوماً يكسب قرشاً، ويوماً اثنين، ويوماً ثلاثة، ليعيش حياته مؤرقاً بالحرمان من الدخل الثابت الذى كان يتحقق له فى البيت الكبير. ها هى الفرصة متاحة الآن ليحقق كل أحلامه فى انتزاع الاحترام، والخلود إلى العمل الهين اللين، والحصول على الدخل الثابت. نظر «أدهم» فى الواقع الجديد الذى خلقه محمد على فوجد جنته فى «الوظيفة الميرى».
اهتم الوالى الجديد أشد الاهتمام بإنشاء الدواوين (الوزارات بالمصطلح الحديث) لإحكام سيطرة الدولة على مقدراتها وإيجاد أدوات قادرة على إدارتها بشكل يؤدى إلى تطويرها وتنميتها. وقد أدى ذلك إلى زيادة أهمية الوظائف الحكومية وارتفاع شأن أصحابها، كما يذكر «رزق نورى» فى كتابه «الفساد فى عصر محمد على». نظر «أدهم» حوله وبحث عن الوسيلة التى يستطيع من خلالها النفاذ إلى وظيفة داخل أحد دواوين الدولة. سأل أهل العلم الدواوينى: ما هو الطريق الأمثل للدخول إلى جنان الوظيفة الحكومية؟ وكان أهل العلم من الحصافة بمكان حين لخصوا له الإجابة فى كلمة واحدة: «المحسوبية». قرعت الكلمة أذنه وأخذ يقول لنفسه: أذكر أننى سمعت عن «المحاسيب»، إنهم محاسيب السيدة زينب من الدروايش والمتصوفة. تذكر وصفاً كان يسمعه باستمرار للسيدة زينب بنت على، وصف «رئيسة الديوان». خلص من ذلك إلى أن «المحسوبية» هى الطريق الطبيعى إلى «الديوان».
«أدهم» كان واقعياً للغاية. ففى مرحلة مبكرة من عصر محمد على -كما يذكر رزق نورى- كانت «المحسوبية» وسيلة للوصول للوظائف، فيقوم الشخص الذى يرغب فى الحصول على وظيفة بالتقرب من كبار رجال الدولة والذين يرتبطون بالوالى ارتباطاً وثيقاً ليتوسطوا له عند الوالى فى الحصول على منصب حكومى. وهو ما أكده «الجبرتى» فى حوادث سنة 1809 حين ذكر أنه نتيجة العلاقات القوية بين السيد سلامة النجارى ومحمد أفندى طبل، ناظر المهمات، فقد سعى الأخير لدى الوالى للحصول على وظيفة وإنعام للأول، فقدم محمد أفندى طبل إلى الوالى عدداً من الهدايا فأمر الوالى بتعيينه فى وظيفة. لم يكن هذا التقليد فى التعيين فى الوظائف الحكومية مرتبطاً بعصر محمد على وفقط بل تجاوزه إلى خلفائه فى الحكم. وتواصل حتى عصر الخديو إسماعيل حين بزغ نجم شقيقه فى الرضاعة «إسماعيل المفتش» كباب عالٍ من الأبواب التى كان يتعين على كل من يحلم بوظيفة محترمة فى الدواوين أن يطرق عليه، على أن يكون محملاً بالمسوغات التى تغرى «المفتش» بالسعى فى تعيينه.