بقلم: د. محمود خليل
فى رواية «تلك الأيام» يحكى المبدع «فتحى غانم» أن بطل العمل «سالم عبيد» وقف أمام أستاذه بالسوربون مسيو لافارج يستمع إليه وهو يقول له: «إن (مجتمعك) أضعف من أن يتحمل الحقيقة. إن كل ما تستطيع أن تفعله هو أن تدرس تفاصيل الأحداث، ثم تقف فى قاعة المحاضرات بجامعة القاهرة لتختار التفاصيل المناسبة اللائقة وتسردها أمام الطلبة. لا شىء أكثر من هذا يا عزيزى. نصف الحقيقة وتحيا. كل الحقيقة والمقصلة يا عزيزى». رواية تلك الأيام نشرها «فتحى غانم» عام 1962، وتُعد مع روايته «الأفيال» من أهم الروايات التى عالجت ظاهرة الإرهاب.
على هامش الفكرة العميقة التى يطرحها «غانم» فى الفقرة السابقة من روايته يثور سؤال: هل نحن مجتمع لا يحتمل الحقيقة كاملة بالفعل؟. فى تقديرى أننا كذلك فى أغلب الأحوال. ولو أنك تأملت بعض العبارات التى تروج فى حياتنا فسوف تجد أنها تعبر عن هذا المعنى بطريقة أو بأخرى. على سبيل المثال نحن نصف أنفسنا بـ«المجتمع النامى» وليس «المجتمع المتخلف». الوصف الثانى يحمل الحقيقة كاملة، أما الأول فيعبر عن جزء منها. أيضاً يوصف المجتمع المصرى بأنه «مجتمع متدين» ولا نجرؤ على مواجهة أنفسنا بالحقيقة التى تقول إن تديننا تجارى أو لسانى أو ظاهرى، وإن بعضنا لا يتوانى عن منافقة السماء بنفس النشاط الذى ينافق به أهل الأرض. من أعقد الموضوعات إلى أتفهها لا يجرؤ كثيرون على مواجهة أنفسهم بالحقيقة. أنصاف الحقائق تروج وتنتشر بسرعة تفوق انتشار الحقيقة، وإلا بماذا نفسر الكم المرعب من الشائعات التى يتم تداولها على ألسنة الناس وأحاديثهم كل يوم؟
يحكى فتحى غانم أن بطل الرواية «سالم عبيد»، الذى كان يعمل أستاذاً للتاريخ، جرّب أن يقول الحقيقة مرة فناله ما ناله من عقاب. وبدلاً من أن يقدّر له الآخرون جرأته على البوح سخروا منه، فطلاب الحقيقة قلة وسط زحام بشرى كبير يحب أنصاف الحقائق. تعلّم الدرس فى فرنسا وعاد إلى بلاده وقرر العزف على نفس الأوتار التى تعزف عليها الغالبية. اختار -كما علّمه أستاذه- جزئيات معينة من الأحداث تُرضى السامعين وانطلق يغرد بها فنال الرضاء. عاش يلعب بأنصاف الحقائق سنين عدداً، لكنه لم يتمكن فى النهاية من الهروب من الحقيقة الكاملة. وكذا شأن المجتمعات التى تقتات على أنصاف الحقائق، إنها تستطيع أن تتعايش مع ذلك زمناً، لكنها لن تفلت من لحظة يلفها فيها حدث يضعها أمام الحقيقة كاملة ودون مواربة.
مؤكد أن الانحيازات المسبقة والتعصب أسباب واضحة تقف وراء ميل المجتمعات إلى «أنصاف الحقائق»، فالانحياز والتعصب يوقعان المرء فى «فخ الانتقائية». وثمة فخ آخر يغذى هذا الميل هو «فخ الانتهازية»، فالحرص على المصالح واللهاث وراء المغانم والمكاسب يؤدى بصاحبه إلى الدفاع عن أنصاف الحقائق، وأحياناً ما يدفعه الطمع إلى الدفاع عن أكاذيب واضحة بيّنة. أسباب أخرى عديدة توقع بالفرد والمجتمع فى شباك «أنصاف الحقائق» من بينها الخوف وقلة الوعى وغير ذلك، لكن يبقى أن المجتمعات التى تقبل بنصف الحقيقة هى مجتمعات تفكر بنصف عقل، وغالباً ما ينتهى الحال بها إلى أن تصبح «مجتمع انصاص».