نخطئ إذا ظننا أن الوالى محمد على لم يحاول تطوير ثقافة «أدهم المصرى»، خصوصاً تلك الخصال التى ورثها عن العهد المملوكى.
المشكلة أن تأثيره على هذا المستوى لم يلحق إلا بفئة من الشعب وظفها -بعد أن رقى تفكيرها- ضمن أدوات مشروعه النهضوى الكبير.
فقد أصاب التعليم والتنوير فى عصر الوالى الكبير دائرة محدودة من أبناء هذا الشعب فى حين ظلت البقية الغالبة متترسة بما ورثته من أفكار تعاند بها جهود النهضة بل وتعبث بها وتحاول أن تعرقلها فى بعض الأحوال.
اهتم محمد على بالتعليم أكثر من أى حاكم سبقه، فأنشأ المدارس وبعث البعثات إلى الخارج، وأتاح للمصريين فرصاً متنوعة للاحتكاك بالخبراء الأجانب -وخصوصاً من الفرنسيين- الذين وفدوا إلى مصر ليصبحوا جزءاً من مشروع النهضة.
اتخذ الوالى من المدارس وسيلة لاستبدال الثقافة الفوضوية التى احتلت أركاناً وشغلت أخاديد عديدة من العقل المصرى بثقافة أخرى أساسها تعليم النظام والالتزام.
لم يلتفت وهو يضع خططه للتعليم إلى الأجيال القديمة التى تكلَّست وتجمَّدت على أفكار «التمدد فى الحديقة والتدخين والاستماع إلى عزف الربابة والناى».
اختار النشء من الجيل الجديد فشرع جنوده فى جمع أطفال البلد والمشردين الذين يلعبون فى الحوارى والأزقة ودفع بهم -قسراً- إلى مدارس العلوم والفنون والصنائع. لم يتقبل أدهم المصرى خطف «عياله» بهذه الطريقة، ولم يفهم الغاية السامية للوالى ورغبته فى بناء مجتمع جديد يعتمد على قوة العلم والحديد والمال.
كان الأهالى حينذاك يتحدثون أن أبناءهم ضاعوا منهم، وإذا عادوا إليهم فسيعودون وقد تناسوا دينهم وعاداتهم وتقاليدهم!.
لم يكن لدى الوالى وقت خلال هذه المرحلة التى يعد فيها لمشروعه الكبير للشرح والتوضيح، وتلك مشكلة كبرى. فما أكثر الغايات السامية والأهداف الجيدة التى تبناها محمد على لكنه لم يوجد الأدوات التى يمكن أن تشرح أبعادها للناس.
الطرف الوحيد الذى كان من الممكن أن يتولى الشرح والتوضيح هو المشايخ، لكنهم كانوا غارقين فى ذلك الوقت فى نفس الثقافة التى تسبح فيها الجماهير، ويحرسونها بكل أمانة، لأن استمراريتها كانت الضمانة الأولى لمصالحهم. عدم وجود جسر واصل بين محمد على والمصريين كان يحول باستمرار بين تحول فكرة النهضة من الدائرة الرسمية إلى الدائرة الشعبية.
وليس هناك خلاف على أن الدعم الشعبى لمحاولات النهضة يعد أحد عوامل نجاحها، والأخطر من ذلك استمراريتها.
ظلت آثار الطفرة التعليمية التى شهدتها دولة محمد على محصورة فى النخبة التى انخرطت فى المدارس والبعثات، لتمثل فيما بعد جزءاً من تركيبة السلطة.
ويشير كلوت بك فى إحصائه لتلاميذ المدارس فى عصر محمد على إلى أن عددهم بلغ 9 آلاف تلميذ، وكان عدد سكان مصر حينذاك يتراوح ما بين 4 و4.5 مليون نسمة، ما يعنى أن المنخرطين فى المدارس لم يشكلوا نسبة تذكر قياساً إلى إجمالى عدد السكان.
والمشكلة أن هذه النخبة لم تبذل الجهد الكافى لتقوم بدورها فى تطوير ثقافة هذا الشعب، وبدلاً من أن تصبح نخبة تنويرية لديها القدرة والأدوات التى تمكنها من التغلغل فى أوساط المصريين ودفعهم إلى الانخراط فى مشروع النهضة الذى تبناه الوالى، انصرفت إلى البحث عن مصالحها الصغيرة.