بقلم: د. محمود خليل
لو أنك قرأت كتاب «كتب وشخصيات» فستعرف كيف كان سيد قطب واحداً من أبرز النقاد الأدبيين فى عصره، فهو واعٍ بشكل كامل بمناهج النقد، ويمتلك أدواته كناقد أدبى بصورة رفيعة. ومن اللافت أنك تجد القرآن الكريم حاضراً فى حديث سيد قطب عن النقد الأدبى، فهو يقول: «ومن العجيب أن يكون القرآن الكريم كتاب العرب الأول، ثم لا يستفيد الأدب العربى من طريقته الأساسية بعد نزوله، وتيسره للذكر فى أيديهم، إلا فلتات فى ديوان كل شاعر، هى امتداد للتصوير فى الأدب الجاهلى، وعلى طريقته، لا على طريقة القرآن الرفيعة». وكان سيد قطب منفتحاً على الكتاب المقدس، واستدل من بعض نصوص العهد القديم: «نشيد الإنشاد»، على التنظير لأدوات رسم الصور الجمالية.
كان سيد قطب من أوائل النقاد الذين قدّموا نجيب محفوظ لقراء الرواية العربية، وأول من نوه بموهبته الفذة فى الرواية الاجتماعية التى تتعارك مع خصوصية الحياة فى مصر، فتمنحها وجهاً إنسانياً عالمياً. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن سيد قطب هو أول من تنبّأ بأن روايات نجيب محفوظ سوف تجد لنفسها مكاناً بارزاً على خريطة العالمية. فقد ذكر ذلك فى المقال الذى أفرده لتحليل رواية خان الخليلى -ثالث روايات نجيب محفوظ- وقال نصاً: «قصة خان الخليلى تسجل خطوة حاسمة فى طريقنا إلى أدب قومى واضح السمات متميز المعالم، ذى روح مصرية خالصة من تأثير الشوائب الأجنبية -مع انتفاعه بها- نستطيع أن نقدمه -مع قوميته الخالصة- على المائدة العالمية، فلا يندغم فيها، ولا يفقد طابعه وعنوانه، فى الوقت الذى يؤدى فيه رسالته الإنسانية، ويحمل الطابع الإنسانى العام. ويساير نظائره فى الآداب الأخرى».
علاقة عجيبة ربطت بين سيد قطب ونجيب محفوظ، فيكاد «قطب» يكون أول من تنبأ بحصول «محفوظ» على جائزة نوبل. أما «محفوظ» فكان من الجرأة بحيث استدعى شخصية سيد قطب فى إحدى رواياته: «المرايا»، ورسم صورة له يختلط فيها الواقع بالخيال، لكنه وضع يده عبر بضع صفحات على مجموعة من المفاتيح الأساسية للشخصية الأدهمية لـ«قطب». كان ذلك من خلال شخصية «عبدالوهاب إسماعيل» الصديق القديم للراوى، والذى تألق فى ميدان النقد الأدبى، ورغم عدم إتقانه للغة أجنبية إلا أنه استطاع أن يفرض نفسه وسط عمالقة الأدب والنقد فى عصره، وامتاز بهدوء أعصاب فذ، وموضوعية واضحة فى المناقشة، وإحساس عالٍ بالثقة فى الذات، لكن شخصيته اختلفت بعد زمن قضاه متألقاً كناقد كبير، إذ بدا صاحب نظرة متعصبة دينياً، وبدا يحتقر كل شىء حوله بما فى ذلك نتاج العلم، وأخذ يردّد أن المسلمين لا يملكون شيئاً يقدّمونه للعالم فى مضمار العلم، وأن الخير لهم أن يهتموا بتقديم تجربة الإسلام إلى العالم. وفى الختام انضم عبدالوهاب إسماعيل إلى جماعة الإخوان. وخطط لمؤامرة ضد الحكم آنذاك، وانتهى أمره برصاصة قاتلة أثناء القبض عليه.
كان «محفوظ» يرثى لحال «قطب» ويعلم أن قدراته الأساسية تتمحور فى مجال النقد الأدبى، وليس فى إنشاء التنظيمات وتسويق الأفكار القاتلة وهدم المجتمعات. ونجيب محفوظ هو الأديب الوحيد الذى زار سيد قطب فى سجنه، وتأكد له فى هذه الزيارة التحول الخطير الذى حدث له. وعندما صدر حكم بالإعدام على «قطب» توقع أن يتم تخفيفه، لكن ذلك لم يحدث. فقد كانت تلك هى النهاية التى اختارها سيد قطب لنفسه بنفسه، حين توهم أن الإعدام هو طريقه الوحيد ليضع نفسه على عرش الفكر فى مصر، كما كان يحلم دائماً.