بقلم: د. محمود خليل
لم تعبر المسألة عن تطور زمنى قدر ما عبرت عن إرادة سياسية، حين سعى حكام بنى أمية إلى تدوين الحديث وسيرة النبى صلى الله عليه وسلم وتاريخ الصحابة. فقد شكلت عملية التدوين تلك الأساس الفكرى للنظرية السلفية أو نظرية الحلم بالماضى الطوباوى الرشيد التى عمد الأمويون إلى إغراق ذرارى المسلمين فيها. بدأت الرحلة مع معاوية وتواصلت مع من تلاه من حكام بنى أمية بدءاً من عصر عبدالملك بن مروان ووصلت إلى محطتها الأهم فى عصر الخليفة عمر بن عبدالعزيز، الذى يصفه بعض المؤرخين بأول المجددين الذين يرسلهم الله على رأس كل 100 عام هجرى ليجددوا لأمة الإسلام شبابها. عندما تولى عمر بن عبدالعزيز الحكم عام 99 هجرية كان قد مر قرن كامل على هجرة النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومر ما يقرب من 88 عاماً على وفاة النبى، وكانت النسبة الغالبة من صحابة النبى صلى الله عليه وسلم قد توفاها الله، ولم يبق إلا من كانوا صغاراً حين كان النبى على قيد الحياة. كان جيل التابعين الأكثر سيطرة على المشهد الثقافى المسلم بعد وفاة معاوية، مثل سعيد بن المسيب والإمام مالك بن أنس وأبوبكر بن شهاب الزهرى وغيرهم.
من بين جيل التابعين برز اسم الإمام أبوبكر بن شهاب الزهرى الذى يصنفه «ابن كثير» كأول من دَوَّن العلم، ويُستند فى ذلك إلى ما رواه الإمام مالك بن أنس. شكلت مدينة رسول الله مسقط رأس «الزهرى» ومنها رحل إلى دمشق حاضرة الدولة الأموية بسبب ضيق الحال فى المدينة وكثرة عياله. وصل «الزهرى» إلى دمشق فى عهد الخليفة عبدالملك بن مروان. وهو من الشخصيات التى امتلكت نظرة ثاقبة وحساً سياسياً عالياً ورثه عن أبيه مروان بن الحكم جعلت المؤرخين ينظرون إليه كمؤسس ثانٍ للدولة الأموية بعد معاوية الكبير. فقد واجهته ثورات وفتن عارمة سواء من جانب الشيعة أو الخوارج، لكنه تمكن من القضاء عليها، والإمساك بزمام الأمور فى يده. الواضح أنه فى اللحظة التى وصل فيها «الزهرى» إلى دمشق كان عبدالملك يبحث عن رجل يساعد على إنتاج «فكر شعبوى» تستنيم إليه الرعية. وقد سبق وجرّب هذا الأمر بنفسه عندما كان من ضمن الفقهاء والمحدثين بالمدينة، وعرف قيمة غرق الرعية فى الجدل فى الأمور الفقهية والركون إلى الحكايات التى ينقلها من يستطيع القص عن النبى صلى الله عليه وسلم وجيل الصحابة. كانت الأجيال الجديدة تشتاق إلى السماع والمعرفة والغرق فى حلم العودة إلى المدينة الراشدة الفاضلة.
ويبدو أن عبدالملك بن مروان وجد ضالته فى «الزهرى». عندما التقاه الخليفة للمرة الأولى عامله بغلظة واتهم أباه بالسعى فى الفتن وبمعاداة بنى أمية، فما كان من «الزهرى» إلا أن استسمحه وذكّره بقول العبد الصالح لمن ظلموه: «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم» فغفر له الوليد، ثم سأله: هل تحفظ القرآن؟ فرد عليه الزهرى «نعم»، فسأله عن إلمامه بالفرائض والسنن فأجاب بكفاءة عن كل الأسئلة التى طُرحت عليه. رضى عبدالملك عن «الزهرى» وقضى عنه كل ديونه وأمر له بجائزة، فطلب منه «الزهرى» خادمة أيضاً فأجاب طلبه، وختم لقاءه معه بجملة معبرة قال له فيها: «اطلب العلم فإنى أرى لك عيناً حافظة وقلباً ذكياً». كان «الزهرى» بحاجة إلى المال الذى يساعده على الحياة وكان يبحث عن استغلال «مهارة الحفظ» التى يمتلكها فى العمل والكسب. وكان عبدالملك بن مروان يحتاج إلى أمثاله من الحفّاظ لدعم الفئة التى كان يرعاها الخليفة وهى فئة «الرواة». وكان الطلب الشعبى فى ذلك الوقت شديداً على هذه الفئة.