بقلم: د. محمود خليل
خطا الخديو إسماعيل خطوة أخرى على طريق زلزلة العقل الأدهمى، وضرب ضربته الكبرى حين قرر التخلص من «تجارة الرقيق».
عندما تولى «إسماعيل» الحكم عام 1863 كانت قصور الكبار وبيوت الأثرياء ومتوسطى الدخل من المصريين تتزاحم بالعبيد والجوارى، حيث كانت تجارة الرقيق شديدة الانتعاش بمصر، وكان العبيد البيض يُجلبون من المستعمرات الشركسية، أما السود فيُجلبون من كردفان ودارفور.
ولو أنك تأملت سطور «حكاية أدهم» فى رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ فسوف تلاحظ أن الأحاديث لم تكن تنتهى عن الجوارى والعبيد الذين يتزاحم بهم البيت الكبير، بل إن «أدهم» نفسه كان «ابن جارية» وذلك ما عيّره به أخوه «إدريس». وأميمة «زوجة أدهم» كانت جارية تخدم فى البيت الكبير.
كان مشهد العبيد والجوارى من المشاهد الأساسية داخل البيوت الكبيرة فى مصر، وكانت القاهرة والإسكندرية وطنطا تعج بأسواق النخاسة، فهى تجارة عظيمة الربح، بسبب وجود طلب متسع من جانب «الأداهم» على اقتناء سلعتها بهدف الرفاهية والتسرى.
وفى مواجهة هذه الظاهرة وقّع الخديو فى 4 أغسطس عام 1877 مع بريطانيا على معاهدة تعاون مشترك لمنع تجارة الرقيق فى مصر والسودان. لم يكن هذا القرار سهلاً على العقل الدينى الأدهمى، فرغم بشاعة ظاهرة الرق من الناحية الإنسانية ومحاربة الإسلام لها وحث الدين على تحرير الرقاب، فإن علماء ومشايخ ذلك العصر رفضوا التوجه الخديوى المحارب لهذه الظاهرة رفضاً تاماً.
فقد عارض شيخ الإسلام (شيخ الأزهر) ومفتى الديار المصرية منع ظاهرة الرق معارضة عنيفة، وزعموا أن توقيع الخديو على المعاهدة يتنافى مع تعاليم الدين، وانضمت إليهم فى المعارضة هيئة العلماء بأكملها، فما كان من «إسماعيل» إلا أن عزل الشيخين وهدد بإلغاء هيئة كبار العلماء.
مضى «إسماعيل» إلى النفى عام 1879 (بعد عامين من توقيعه على معاهدة منع الرق)، ثم أفضى إلى ربه عام 1895 دون أن يختفى العبيد والجوارى من مصر.
فرغم اتخاذ إجراءات عديدة لمحاصرة الظاهرة بعد معاهدة التعاون المشترك بين مصر وإنجلترا لمواجهة الرق فى مصر والسودان فإن الحال ظلت على ما هى عليه، وتختزن الذاكرة الأدهمية العديد من الوثائق التى تدل على أن الرق ظل جزءاً من الحياة المصرية حتى أوائل القرن العشرين. لم يكن «أدهم المصرى» على استعداد للتخلى بسهولة عن عادة ارتبطت بمزاجه ونمط حياته، ولم تكن قرارات الوالى بقادرة على تغيير أسلوب تفكيره، بل كان الزمن وحده كفيلاً بذلك، حين اختفت تجارة الرقيق بمرور الوقت وتطور موقف الجماعة البشرية منها.
ومن المفارقات العجيبة أن المزاج الأدهمى كان يعانى كدراً شديداً نتيجة إحساسه بالاستعباد من جانب الولاة ومن يتحلق حولهم من الكبار، ورغم ذلك لم يكن يقبل بسهولة التخلى عن فكرة استعباد غيره ما دام يملك الثمن. اختفى العبد -وكذا الجارية- صاحب الرخصة بفعل التطور، لكن أخشى أن أقول إن الحياة الأدهمية لم تخلُ من تطبيقات مبتكرة لفكرة الرق!