بقلم: د. محمود خليل
نعود إلى حكايات «أدهم المصرى» ونقول إنه فيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبالتحديد فى عام 1928، ظهر على مسرح الأحداث «أدهم» من نوع خاص امتد أثره من زمانه إلى ما بعد زمانه، والسر فى ذلك أنه فهم الثالوث الذى شكل الأساس الذى استوت عليه شخصية «أدهم» منذ بدأ رحلته فى خلاء المحروسة، ثالوث: «الخبز والدين والحلم بالسيادة». إنه الشيخ حسن البنا. ولد الشيخ الأدهمى بقرية «شمشيرة»، مركز فوة عام 1906، ونزح والده وهو صغير إلى بلدة المحمودية حيث افتتح محلاً لتصليح الساعات، ولقب بـ«الساعاتى»، حفظ الشيخ القرآن، والتحق بمدرسة المعلمين الأولية، ثم كلية دار العلوم، وعمل معلماً بإحدى مدارس الإسماعيلية ومنها انتقل للعمل بمدارس القاهرة.
جمع حسن البنا فى هيئته بين ملامح الأفندية والشيوخ. فقد كان مثل الأفندية يرتدى «البذلة» والطربوش، لكنه كان يماثل الشيوخ فى إطلاق اللحية واحتراف مهنة الوعظ الدينى. خلافاً لمن سبقه من زعماء «الأداهم» الذين قذفت بهم الظروف إلى منصات الزعامة، كان الشيخ الشاب يرى أنه ولد لكى يكون زعيماً، وأن الزعيم الحقيقى لا بد أن يكون مؤهلاً لذلك وليس زعيماً يصنعه ظرف. يحكى محمود عبدالحليم فى كتابه «أحداث صنعت التاريخ» أن «البنا» روى له أنه حضر ذات يوم امتحان الدبلوم النهائى بدار العلوم، وكان امتحاناً شفوياً، سأله الممتحن يومها: ما أحسن بيت أعجبك فى الشعر العربى؟ رد «البنا»: أحسن بيت أعجبنى هو قول طرفة بن العبد فى معلقته: «إذا القوم قالوا من فتى خلت بأننى عنيت.. فلم أكسل ولم أتبلد». ولعلك تذكر أن هذه الذكرى الأدهمية ظلت عالقة بذهن واحد من جماعة الإخوان شاء الله أن يصل إلى رئاسة مصر وهو الدكتور محمد مرسى، فقد ذكر بيت الشعر نفسه فى أحد البرامج التليفزيونية التى كان يروج بها لشخصه قبل انتخابات الرئاسة 2012.
اللافت أن حسن البنا كان يردد هذا الكلام فى فترة تاريخية شهدت مجموعة من الزعامات ذات العيار الثقيل، على رأسها مصطفى باشا النحاس، وعدلى باشا يكن، وأحمد حسين، زعيم مصر الفتاة، وغيرهم. ولا يخفى عليك ما يحمله ترديد بيت شعر «الفتى المنتظر» من نرجسية وولع بالذات وقناعة عجيبة بأن الأقدار هى التى تختار، وليس البشر هم الذين يختارون أقدارهم. وهذا النمط من التفكير هو جزء من «الروح الأدهمية». ولعلك تذكر الوصف الذى قدمه «بلنت» للزعيم أحمد عرابى فى كتابه «التاريخ السرى للاحتلال الإنجليزى لمصر» وقال فيه: «راح عرابى يسير بطريقة حالمة فى الطريق الذى رسمه له الحظ، وكبرت فى رأسه خرافة المصير الذى رسمه له القدر، وأن العناية الإلهية بعثته منقذاً لهذا الشعب». ليس تشابهاً بين شخصين، فقد كان «عرابى» يغرد فى وادٍ، و«البنا» فى وادٍ آخر، لكنها الروح الأدهمية التى تدمغ الأشخاص بنفس البصمة.
وقف الشيخ الشاب عام 1928 بميدان الإسماعيلية رافعاً كتاب الله فى يده، وشرع يهتف: «الطريق ها هنا.. الطريق ها هنا». وكأن الناس قد ضلت عن الدين، وهو كلام لا ينطلى إلا على «الأداهم الحرافيش»، فى حين لم يجد صدى لدى «أفندية الوفد» أو الأعيان وملاك الأرض «الدستوريين». وقد كان «البنا» دقيقاً فى اختيار طريقه مع «حرافيش الأداهم».